غاز أوروبا ومياه تايوان: نماذج عن العودة المستحيلة إلى الوراء
إن التشابك العالمي على كل المستويات، التحول الذي دفعت نحوه الرأسمالية نفسها بشكل عميق جداً، يجعل من المستحيل العودة إلى الوراء. فالوحدة العالمية على المستوى التحتي الاقتصادي-الإنتاجي، ومعها مختلف أشكال إنتاج وإعادة إنتاج الحياة على الأرض، ربطت المجتمعات على مستوى سلاسل الإنتاج، والتوزيع والاستهلاك، وعمقت بذلك الوحدة العالمية الموضوعية. وهذا الترابط، والتقسيم العالي العالمي للعمل، هو ترابط على مستوى مصادر الثروة الطبيعية. وهذا الترابط لا يمكن الإخلال به والعودة عنه دون الإخلال بانتظام الحياة على الأرض. وما هو ممكن فقط هو تطهير التناقضات في المستوى الحالي من تطور النظام العالمي. فالقوى الإمبريالية المهيمنة اليوم وفي مرحلة تراجع هيمنتها على هذا النظام تحاول أن تتراجع عن النظام الذي قامت بالدفع نحوه قوانين الرأسمالية نفسها. ليست أزمة الغاز الأوروبية- الروسية إلا نموذجاً لها، وهنا نمر على أزمة «تايوان- الصين» المائية.
وهذا يطلق كما قلنا في مراحل سابقة طاقات حياة تمنع هذا الهجوم البربري. فالمحاولة التي تقوم بها القوى المهيمنة مستحيلة إلا إذا دفعت العالم نحو حافته. وهنا نرى تعاظم وتلاقي العديد من قوى العالم ضد المحاولات الاستفزازية والتدميرية التي تقوم بها قوى العالم القديم الغربية. وهذا التلاقي هو أعظم من التناقضات التي هي بين تلك القوى التي تتقارب اليوم وتعدل من تموضعها السياسي على أقل تقدير، الذي سيكون مؤشراً على إعادة تموضع أعمق على المستوى الاقتصادي إذا ما اعتبرنا أن عقل المرحلة لدى أغلب هذه القوى يسير تجريبياً على وقع سمفونية موضوعية تاريخية، قائد أوركسترا عقلها الواعي هي بعض القوى الحية عالمياً ليست أجهزة القيادة في روسيا والصين إلا أبرز ممثليها. وما هو ممكن فقط الآن هو الحفاظ على مستوى التطور الحالي الذي وصله النظام العالمي، عبر تجاوز الرأسمالية، وهو ما يحصل عبر خطوات مرحلية تسير هي أيضاً محكومة بالضرورة الموضوعية لهذا التجاوز، والتي تبدو وكأنها تتقدم تجريبياً هي الأخرى.
«الغاز الأوروبي» و«مياه تايوان»
إن أزمة الغاز الأوروبي ليست إلا مؤشراً على هذا الترابط الذي كان مقبولاً فقط من قبل قوى الهيمنة في مرحلة هيمنتها، ولكنه لم يعد مقبولاً بالنسبة لها في مرحلة تراجع هيمنتها. فحاجة أوروبا (والعالم) إلى الغاز الروسي لا يسمح بقفزات في الفراغ وعناد إرادوي من قبل القوى التي تحارب روسيا. فالثروة على الأرض محدودة ولها توزيعاتها على الكوكب. وهذا من البدهيات. وهذا يجعل من المواجهة السياسية ومحاولة عزل وتدمير روسيا مكبوحة بالضرورة. فالتدمير له كوابحه العسكرية، والعزل له كوابحه الاقتصادية والسياسية. وهذا نفسه يمكن تلمسه وإن كان بشكل آخر في قضية تايوان بالنسبة للصين. فتايوان كونها جزيرة، تقارب مساحتها الـ36 ألف كيلومتراً مربعاً، تعاني من نقص حاد في المياه العذبة. فالتقارير تقول بأن تايوان قادرة فقط على استخدام 20% من المياه التي تهطل سنوياً، ما جعلها على المرتبة 18 على لائحة الأمم المتحدة للمناطق الفقيرة بالمياه. وهذا الشح كان سبباً في تصحر مساحات واسعة من الأراضي الزراعية على الجزيرة «المتمردة»، فسجّل العام 2021 توقف الريّ عن 740 كيلومتراً مربعاً من الأراضي الزراعية، وهو ما يعادل مساحة مدينة نيويورك، ما جعل المزارعين يتركون أرضهم، فالزراعة في تايوان تستهلك أكثر من ثلثي مصادر المياه (66%). فتايوان كانت تعتبر على مدى العقود الماضية من أكثر المناطق رطوبة وهطولاً للمطر في العالم، فكانت تسجل ما بين 3 إلى 4 أعاصير سنوياً تمدها بالمياه يتم تخزينها على الجزيرة. نسبة الهطول العالية هذه سمحت للجزيرة (من خلال الأنهر وضخ المياه الجوفية والخزانات) بسد حاجتها المائية للزراعة والصناعة والاستخدام اليومي المنزلي الذي يقارب الـ21 مليون طن سنوياً. ولكن على مدار السنوات السابقة انخض مستوى هطول المياه، وفي العام الماضي (2021) لم تسجل الجزيرة أي إعصار بسبب انحراف مسار الأعاصير في منطقة المحيط الهادئ بسبب التغير المناخي، كسابقة منذ العام 1964. وهو ما أبقى 17 من أصل 19 خزاناً على الجزيرة بنسبة تخزين أٌقل من 50%، حيث وصل بعضها إلى نسبة تخزين 4.4%.
التناقض بين الزراعة والصناعة والاستهلاك المنزلي
إن النقص الحاد في مصادر المياه فرض على السلطات تخفيض حصة المياه المخصصة للاستهلاك المنزلي (تستهلك حوالي 20% من مصادر المياه في تايوان) والزراعة (تستهلك حوالي 66% والموزعة على الأرز المغمور والفواكه الاستوائية، والأرض الزراعية تحتل 24% من مساحة الجزيرة) لصالح الصناعة (تستهلك حوالي 10%)، وتحديداً صناعة أنصاف النواقل التي تغطي حوالي 90% من السوق العالمية. وهذا دونه صعوبات في ظل ارتفاع استهلاك المياه على الجزيرة، وهو ما يفوق مثيله في أوروبا، حيث يصل استهلاك الفرد اليومي إلى حوالي 271 ليتراً يومياً بعد عقود من انخفاض سعر المياه في تايوان (30 سنتاً أمريكياً، أي أقل بـ6 مرات من المملكة المتحدة) ما قلل اهتمام المواطنين بترشيد الاستهلاك (عدد السكان في تايوان حوالي 24 مليوناً). وهذا النقص الحاد في السنوات الماضية دفع سلطات جزيرة كينمان التابعة لتايوان (ولكن البعيدة 10 كلم فقط عن البر الرئيسي بينما تايوان أكثر من 160 كلم) لطلب المساعدة من البر الرئيسي الصيني. وبعد بعثة تايوانية إلى البر الرئيسي، حصل اتفاق في العام 2013 لتوريد المياه عبر أنابيب بحرية من مقاطعة فوجيان (الأقرب على تايوان والتي تشهد الحشد العسكري الصيني خلال الأيام الماضية). وبدأ الأنبوب يعمل في العام 2018 بسعة 34 ألف متر مكعب يومياً. وهذا يعني حوالي 12 مليون طن سنوياً، أي ثلثا الحاجة المعلنة لتايوان بكاملها. وإذا اعتبرنا أن منطقة كينمان كانت نموذجاً مبكراً للنقص الحاد في المياه خلال العقد الماضي (بدأ البحث بتوريد المياه مع البر الرئيسي منذ 1996)، فإن الجزيرة ككل ستعاني من أزمة مياه قريباً جداً حسب كل التقارير. فالتحول إلى نموذج ذراعي جديد تواجهه صعوبات، منها أن غالبية عمر المزارعين تتجاوز عمر 62 عاماً، وبالتالي هناك صعوبة في تجديد التقنيات والمهارات التي يمكن أن تحد أيضاً من تسرب المياه عبر الأنابيب التي تعاني منها الزراعة حالياً. وهناك أيضاً صعوبة بناء سدود جديدة بسبب مسائل لها علاقة بجغرافية الجزيرة، والتي يقول الخبراء إنها لن تنفع في ظل تحول مسار الأعاصير وانخفاض حدتها.
أزمة أنصاف النواقل
من الحلول المطروحة أمام صناعة أنصاف النواقل التي تستهلك حوالي 20% من مصادر المياه هي عبر إنشاء مصانع تحلية مياه البحر، ولكن بسبب الكلفة (تقدر بحوالي دولار واحد للطن) لن تكون مجدية إلا للشركة التايوانية الأكبر في المجال TSMC التي تعمل أيضاً على تكرير 86% من المياه التي تقوم باستخدامها من أجل إعادة استخدامها مجدداً، وما بني إلى حد اليوم لا يفي بالحاجة فبعض محطات التكرير كالتي في منطقة هسينتشو- حيث تمركز أغلب صنّاع أنصاف النواقل- تغطي فقط 7% من الحاجة (لقد انتقلت عدة شركات العام الماضي نحو البر الصيني الرئيسي). والمشكلة الأكبر هي في حرمان الزراعة والسكان من مصادر المياه في حال تقليل حصتهما من المياه لحساب صناعة أنصاف النواقل. العام الماضي توقفت السلطات التايوانية عن ري 183 ألف هكتار من الأراضي الزراعية لصالح الصناعة ما شكل نقمة (على قطاع أنصاف النواقل تحديداً) لمزارعين من الجيل الرابع في زراعة الأرز بعد توقف إمدادهم بالمياه بشكل كامل (تتحدث التقارير في العام الماضي عن تهجير قصري للمزارعين في تايوان حيث يقدَّر عدد العاملين في قطاع الزراعة بمليون أي حوالي 9% من القوى العاملة)، وأوقفت المياه عن السكان في عدة مدن ليومين في الأسبوع. وتقول تقارير العام الماضي بأن أزمة المياه على الجزيرة ترتبط بشدة بأزمة صناعة أنصاف النواقل، وتشكل مشكلة سياسية للسلطات التايوانية فالسلطات سبق وأن طلبت من قطاع أنصاف النواقل بتقليل 13% من استهلاكه، هذا القطاع الذي يضم حوالي 3 ملايين عامل (حوالي 27% من القوى العاملة يعملون في الصناعة). وذهبت بعض المحاولات لاصطناع المطر، وأخرى للصلاة للإله مازو إله المطر في التاوية والبوذية! وإذا ما أخذنا موقع الجزيرة الجغرافي فإن الحل المتاح القابل للتحقيق للبقاء على قيد الحياة عملياً (تايوان تعاني من خطر عدم قدرتها على كفاية نفسها بالغذاء وخصوصاً بعد تحول قسم من المزارعين نحو البطيخ وعباد الشمس بسبب حاجتهما الأقل للمياه) واقتصادياً هو باستقدام المياه عبر البر الرئيسي الصيني خصوصاً أن الصين تستحوذ على 7% من حصة المياه العذبة عالمياً، واستكمال ما يتم استقدامه عبر خط أنابيب جينجيانغ الذي اعتبر مسبقاً كجزء من مشروع بناء «العلاقة السلمية» بين الطرفين، الذي ارتفع منسوب الضخ عبره العام الماضي. فالمسافة بين تايوان والبر الرئيسي حوالي 160 كيلومتراً، وهذا قريب من المسافة بين تركيا وقبرص (القسم الشمالي «التركي») التي يربطهما خط أنابيب مياه تحت المتوسط (بعمق 300 متر) الذي يعتبر الأطول من نوعه اليوم، خصوصاً أن عمق مضيق تايوان هو أقل بكثير (حوالي 140 متراً) من عمق البحر الأبيض المتوسط حيث يمر الأنبوب التركي (في بعض المواقع يصل إلى عمق 1400 متر) وهذا يقلل المصاعب التقنية لربط الأنابيب مع قاع البحر. وخلاف ذلك (الفليبين هي الخيار الأقرب لتايوان ولكن مضيق لوزون (تايوان- الفلبين بطول 250 كلم) يعتبر الأكثر نشاطاً للتيارات المائية المحيطية القوية ويصل إلى عمق 4 آلاف متر)، يعني التصحر الفعلي والاقتصادي (صناعة أنصاف النواقل والزراعة)، فتكون تايوان «المتمردة» عطشى، كما هي أوروبا ستكون مظلمة وباردة دون الغاز الروسي، فالمستقبل هو للتعاون والعمل المشترك بحكم ضرورات استمرار الحياة لا أقل من ذلك.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1082