شباب ينطفئ في عالم يشتعل
يكاد لا يخلو يوم من أخبار موت شاب هنا أو انتحار آخر هناك، سواء في وسائل الإعلام أو ما يتناقله الناس بين بعضهم. والمرعب في الأمر أنه موت مفاجئ ومجاني يحكم قبضته في الغالب على شباب صغار في السن نسبياً.
في عالم تشتعل فيه الأحداث على وقع انفجار أزمات متعددة ومتنوعة في شكلها ومضمونها، عالم يسوده الذعر وإحساس طاغٍ وعميق بالخوف مما يحمله المستقبل للبشرية جمعاء، يقف الإنسان «الفرد» أمام ذاته مشدوهاً يغمره إحساس عميق بالعجز، رغم كل ما أنتجته الدعاية والإعلام من أوهام عن بطولات فردية «سوبرمانية» لحل المشاكل المتراكمة أمامه.
مازال الناس، في كل مكان وكما كانوا في عصور سابقة، يخافون للأسباب ذاتها، يخافون الموت والمجهول والجوع والمرض والألم.. وكل ما يهدد حياتهم. ولا غرابة في أن يتحول خوفهم هذا إلى سلاح، غالباً ما يُستخدم ضدهم.، مما يثبت حقيقة أن زرع الخوف وتكريسه من أقوى الأسلحة وأكثرها فعّالية في الهيمنة على البشر.
يعيش الإنسان المعاصر حالة فريدة من القلق الوجودي، إن صح التعبير، يعبر عنها الشعور الجمعي الذي ظهر في ردّات الفعل تجاه ما يشكل تهديداً لحياته وأمنه وصحته.. وباء كورونا نموذجاً.
ومع ذلك، يتنامى شعور الإنسان الفرد بالعجز، في مفارقة واضحة ترسم حجم ما ينبغي مواجهته من أجل الاستمرار في الحياة.
فعندما لا يجد وسيلة لحماية نفسه وللشعور بالأمان تجاه التهديد الكامن والصريح لحياته، تتضخم عنده ليس فقط حجم الأخطار التي يتعرض لها بل أيضاً مشاعر عجزه وقلقه، لتصبح مشاعر مزمنة تلازمه منذ الصباح وحتى المساء. قلق مشروع على تفاصيل حياته كالصحة وتأمين الغذاء...إلخ. ولكن مع شعور ملازم بفقدان السيطرة على مصيره وانعدام وجود ضمانة فعلية له أو لعائلته، تذهب به في غالب الأحيان إلى التعلق بحلول غير واقعية كالتمسك بالماورائيات، والتعلق بالأوهام السحرية والتعلق والخرافة...
وغالباً ما تدفعه مشاعره المتنازعة بين رغبة في مجابهة ما يعترض سبيله من جهة، والرضوخ والخضوع من جهة أخرى، إلى الشعور بالدونية ثم العجز فيختل توازنه إلى حد اعترافه الضمني أو الصريح بانعدام قيمته كإنسان. وتكثر في هذه الحالة الميول الانتحارية النابعة من تفاقم مشاعره واختلاطها، وعدم قدرته على فهمها مما يؤدي به إلى حالة من العدوانية والقسوة على ذاته سواء بشكل صريح أو رمزي.
أبناء الأزمة
ثمة من يحاول إقناع السوريين عموماً والشباب ضمناً بأنهم مصدر الشرور والسبب وراء ما يحدث من مآسٍ يعيشها شعب اكتوى بنيران أحداث السنوات الماضية وما حصل فيها من عنفٍ ودمار وتبدلات استثنائية في السياسة والاقتصاد والثقافة والبنية الاجتماعية.. إلخ. وثمة من صدق الدعاية التي حِيكت ضده، فانطفأ في عالم يشتعل.
يعيش الشباب السوري حالة انكسار مؤقتة، ولكنها حادة بشكل كبير فمن ناحية تزعزعت البنية الاجتماعية الحامية للفرد وبدأت بالتفسخ، ولم يُنتج البديل المطلوب بعد في مجتمع يرفض الفراغ كغيره، ومن ناحية أخرى لعبت التغيرات الحاصلة على المستوى السياسي والاقتصادي وحتى العسكري دوراً في زعزعة البنية النفسية والفكرية خاصة لأولئك الشباب الذين ولدوا قبيل انفجار الأزمة أو خلالها، وهؤلاء يتمتعون بصفة فريدة وهي أن ذكرياتهم مرتبطة فقط بالأزمة وما حدث خلالها، الأمر الذي يجعل من الصعوبة بمكان إحداث تحول في نمط الحياة التي يعيشونها ونمط علاقتهم بالواقع وسلوكهم تجاهه، رغم أن المطلوب بالذات هو تقديم نمط حياة جديد يقوم على إعادة ربط الإنسان بواقعه وإعطائه دوراً حقيقياً يتخطى المنهج السائد ويذهب نحو أبعاد جديدة لمستقبل أفضل.
الأمل المؤجل
«إن الزمان جدلي وليس تسلسلي يذهب من الماضي إلى المستقبل مروراً بالحاضر باتجاه واحد جامد» حسب ما يؤكده د. مصطفى حجازي في كتابه «مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور». فالماضي والحاضر والمستقبل تشكل الأبعاد الثلاثة لما يسميه «الديمومة أي للتجربة الوجودية المعاشة زمنياً».
إن شعور الإنسان بعجزه وعدم قدرته على التحكم في مصيره مرتبط بالزمن (ماضياً وحاضراً ومستقبلاً) وما يحدث فيه من أفراح وآلام، فالحاضر يؤثر بخصائصه في تجارب الإنسان الماضية منها والمستقبلية، وفي إدراكنا لها، وكل من هذه الأبعاد، يتحدد بالبعدين الآخرين ويحددهما في آن معاً مما يجعلنا نعيش الزمن في كل لحظاته كوحدة كلية لها لونها المميز.
آلام الماضي تؤثر في الحاضر والمستقبل فتجعلهما أشد وطأة وأكثر مدعاة للقلق، بينما تدخل أفراح الحاضر التفاؤل على المستقبل وتخفف من معاناة الماضي مما ينعكس سلباً أو إيجاباً على المرحلة كلها.
هنا تأتي الإجراءات والقوانين المتخذة ضد الناس في عيشهم وحرياتهم لتعزز حالة الانكسار عند الناس عموماً والشباب خصوصاً من خلال جعل الحاضر أسوداً في أعينهم، لا يمكن تجاوزه أو الفكاك من سطوته. وكلما ازدادت مصاعب الحياة هذه كلما زاد الاحتقان الشعبي وأصبح مزمناً، الاحتقان ذاته الذي كان أحد أسباب انفجار الأزمة، ومازال اليوم يتراكم ويزداد بعد أن تضاعفت أسباب الشكوى، وعدم الرضا والشعور بالغبن والغضب.
يمكن لهذا الأخير «الغضب» أن يصبح قوة محرّكة لتحقيق مطالب محددة وتقديم حلول للمشاكل العالقة. عندما يتسنى لهذا الغضب أن يُوجّه نحو من يستحقه فعلاً بدل أن يبقى هكذا، يتأجج في النفوس ويذهب بالبعض إلى إزهاق روحه أو الموت قهراً!
يمكن التحرر من قيود اللحظة (الحاضر) فتصبح التجربة المباشرة مع الألم مخرجاً بدل من أن تكون قاتلة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1074