الإبداع الثوري والإنتقال عالي التعقيد: نحو «كومنترن» القرن الحادي والعشرين

الإبداع الثوري والإنتقال عالي التعقيد: نحو «كومنترن» القرن الحادي والعشرين

لم يعد خافياً الاستنتاج بأن التعقيد والترابط الشديد الذي نتج عن عقود «العولمة» يجعل عملية تجاوز الإمبريالية- والرأسمالية حكماً- معقدة بالضرورة. فالترابط الغذائي (والأمن المائي، والطبيعي) والطاقي والعلمي- التكنولوجي والاقتصادي والصحي، يتطلب انتقالاً عالمياً متزامناً، وهذا يعني بالضرورة أنه سيأخذ مداه الزمني غير القصير، ولو كان التسارع يطبع المرحلة. وهذا يفرض خلق هوامش للممارسة الثورية تناور حول هذا التعقيد الذي يرتبط بالضرورة بالبنى الفوقية السياسية للدول وعلاقاتها.

التعقيد وزمن الانتقال

لأن عملية الانتقال العالمي وتجاوز الإمبريالية (وضمناً الرأسمالية) يحتاج عوامل ذاتية، إضافة إلى العوامل الموضوعية (التناقضات البينية التي رسختها التقسيمات الجيوسياسية من خلال الفوالق التي ثبتها الغرب تحديداً)، فإن الانتقال سيأخذ مداه الزمني غير القصير. وكون هذا التعقيد لا يطبع فقط صراع محورين متقابلين صافيين، بل يطبع أيضاً أطراف الصراع «الدولي»، فإنه يفرض كوابح على الدول التي يتمثل فيها أكثر من غيرها وزن التاريخ القادم. فالتناقضات الخاصة بكل دولة على حدة كشكل «وطني» من التعقيد العالمي، يكبح إطلاق الطاقات الثورية الكامنة بالاعتماد فقط على البنى الفوقية لهذه الدول. فأجهزة الدولة يتمثل فيها هذا التناقض بالذات بين قوى الشد الرجعي وتلك التقدمية. ومن هنا ضرورة المناورة حول ذلك وتجاوز تلك الكوابح.

إبداع أطر لتوسيع الهوامش

من الواضح من خلال متابعة العديد من المنصات الصحفية والإعلامية والسياسية والبحثية بأن هناك عناصر تعكس سقفاً ثورياً أعلى مما تعكسه الأطر الرسمية للصراع اليوم في طرحها الصريح على أقلّ تقدير (على افتراض أنها تحمل سقفاً ثورياً لا يجري التصريح به). وهذه العناصر ليست بالقليلة، إن كانت من بقايا قوى ثورية ناجية من محرقة الليبرالية، أو قوى جديدة خلقتها العقود الأخيرة وتناقضاتها، وطبعاً هناك الوزن الموضوعي الضخم للقوى الاجتماعية التي تبحث عن إجابات حياتها ومصيرها. هذه الإجابات التي ما زالت بعيدة الحضور في الفضاء الصريح للصراع الفكري وخطابه السياسي.
وإذا كانت هذه الكوابح ناتجة عن عدم تفجير تناقضات داخلية غير محسوبة ربما، أو لا يمكن حسم نتيجتها حالياً بسبب توازن القوى الداخلي في كل دولة من الدول، كروسيا والصين مثلاً، فذلك يعني أن الممارسة من خلال الأطر الرسمية الحالية للبنى الفوقية دولاً وإعلاماً بالتحديد، فإنه يجب خلق الهوامش التي تسمح لوزن الخط الأكثر ثورية بالحضور والتأثير دون المخاطرة بتفجير وحدة الدول وتماسكها. وإذا عدنا إلى كتاب د. قدري جميل الأخير «الأزمة السورية، الجذور والآفاق» الصادر عن دار الفارابي في بيروت، وتحديداً إلى فكرة «مخففات الصدمة» في إشارته إلى خلق أطر تشكل مساحة تحمي من التصادم المباشر بين المجتمع والدولة، يمكننا القول إن هذه الفكرة يمكن تعميمها لكي تخدم التعقيد المذكور وإن كان توظيفها يسبق بناء النظام السياسي، أي حيث يتم توظيفها في سياق الصراع. فالأطر التي نتكلم عنها هي بالتحديد تلك المساحة التي تحمي الاصطدام ضمن أجهزة الدولة الحالية وتحمي من احتمال التفكك غير المطلوب ربطاً باتجاه التفجير الذي تدفع به الإمبريالية. وفي ذات الوقت تساعد على تأطير أوزان جديدة تشارك في الصراع وطنياً وعالمياً. أوزاناً مضافة على ما هو قائم اليوم ضمن أجهزة الدولة المذكورة كالجيش ومواقع القرار السياسي و«التنظيمات الرسمية».

تمثيل القوى الأكثر ثورية

الهدف الأساس هو تمثيل وإبراز الخط والعقل الأكثر ثورية ليس فقط الموجودة في تلك الدول، بل عالمياً. خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أن بعض الدول يمتاز فيها العنصر الذاتي بوزن قليل. هذا التجميع خارج الأطر السياسية الرسمية الحالية كتجمعات الدول والإئتلافات والتحالفات التي تقوم اليوم حصراً بين أجهزة الدول وحتى ضمن الأجهزة «الأممية» للأمم المتحدة. وهذه الأطر بالضرورة سياسية مباشرة وثقافية وإعلامية وعلمية... يمكن ويجب العمل على تشكيلها لتكون رافعة للاشتراكية في القرن الحالي، أو بالأحرى «كومنترن» العصر الحالي المتلائم مع التداخل بين العمل الحزبي وحضور الخط الثوري في أجهزة الدولة خلال النصف الثاني من القرن الماضي. هذه الأطر ستسمح بالمناورة وتوسيع الهوامش الناتجة عن التعقيد العالي وطول مرحلة الإنتقال. هذا قد يكون نوعاً من الإبداع السياسي الضروري الذي يمكن أن تساهم به القوى الموجودة اليوم في الدول التي تمثل خط الدفاع الأول وتلك القوى «المتوزعة» في باقي دول العالم. هذه المنصات ستشكل مخفف صدمات وظيفتها استيعاب الطاقة الاجتماعية التي تتصاعد يوماً بعد يوم ولكنها قد تتحول ويتم توظيفها كقوة هدامة لخدمة الانفجار الرجعي وقاعدة للبربرية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1073