ستانسلافسكي والتنقيب في التاريخ كنَصّ
حسين خضّور حسين خضّور

ستانسلافسكي والتنقيب في التاريخ كنَصّ

عند تأمُّل التاريخ كمفهوم، ربما نتوقف على أنَّ ما حدثَ قد حدث، أو بكلمة أخرى أنَّ التاريخ قد كُتِب، وبناءً على ذلك اقتُرِحَ في بعض الأحيان النظرُ إلى مقطعٍ زمني ما مِن الماضي على أنه نصٌّ ضمن سياق، وفي داخل هذا النص شخصيات كثيرة ومتنوعة، وأحداثٌ كبيرة وصغيرة، وتفاصيلُ معقَّدة، وبسيطة... إلخ. لكن كيف يمكن الوصول إلى جوهر النص ضمن هذا الكمّ الهائل من الأشياء؟

ربما نجد الإجابة عند فنّان روسي يدعى ستانسلافسكي (1863 – 1938) أبدعَ في التمثيل والإخراج، واشتهر في تعاونه الخلاق مع الكاتب الكبير أنطون تشيخوف، وبذلك أصبح معروفاً بكونه رائد المسرح الواقعي، وأثرهُ الكبير ما يزال في كتاباته التي وضعت منهجاً ساهم في تطوير المسرح، وحتى السينما الواقعية.
من أبرز كتبه كتاب «إعداد الدور المسرحي»، حيث يذهب ضمنه الممثّل، وحتى القارئ في رحلة تكوين الدور المسرحي، وفهم علاقته مع جوهر النص.
سنتوقف معكم عند حيلة قد أوجدها ستانسلافسكي للكشف عن جوهر النص عبر طرحه سؤالاً بسيطاً: ما هو الشيء الأساسي الذي من دونه لا يمكن للنصّ أن يكون؟ ومن ثم يعيد طرح السؤال ذاته على الأجوبة التي ظهرت إلى أن يصل للعمود الفقري للنص.
إليكم هنا مقطعين صغيرين من كتاب «إعداد الدور المسرحي»:
«إن لكل مسرحية، مثلها مثل كل كائن حي، هيكلٌ عظمي وأعضاء: أذرع، أرجل، رأس، قلب، ومخ. وكما يدرس عالِمُ التشريح بينةَ العظام والفقرات، كذلك يكتشف الأديب الهيكل اللامرئي، ويدرك أجزاءه المكونة. إنه على الفور، يهتدي إلى المراكز العصبية المحرِّكة ويضطلع بها».
«يسأل نيكولايفتش الممثلين: ما هو الشيء، أو ما هي الظروف، أو الظواهر، أو المعاناة التي من دونها لا وجود للمسرحية؟
ـ حبُّ عطيل ديدمونة.
ـ أيضاً؟
ـ الشقاق بين القوميَّتَين.
ـ صحيح، ولكن ليس هذا الشيء الأساسي.
ـ مكيدة يا غو الشريرة.
ـ أيضاً؟
ـ دهاؤه الشيطاني وانتقامه، وحبه الرفعة، واستياؤه.
ـ سلامة طويّة عُطَيل.
ـ لننظر الآن في كل إجابة من هذه الإجابات على انفراد، ولنسأل أنفسنا: ما هو الشيء الذي من دونه لا وجود لحب عطيل ديدمونة؟».
دعونا الآن نطبق مثالاً على ذلك نستخدم فيه الحيلة التي ذكرها ستناسلافسكي في النصّ المقتبَس منه آنفاً، ونذهب إلى اقتراحٍ نفكّر به سويةً في مقطع زمني في الماضي فيه زخمٌ كبير يرتقي إلى ما نعيشه اليوم.

ثُلثُ العالَم الشيوعي

1848 خرج شبح البيان الشيوعي - 1948 ثُلث العالم أصبح شيوعياً.
هذا «النَّص» /المقطع الزمني/ من صفحات التاريخ، قد «كُتِب»، وتم تهميشُه خلال ثلاثة عقود مضت، وأقترحُ تسميتَه «ثُلث العالم شيوعي».
قبل أن نجرّب معاً استخدام تلك الأداة من المسرح الواقعي لكشف جوهر «النَّص»، ربما علينا تجنُّب الوقوع في الفهم الكاريكاتوري لحركة التاريخ، حيث إنه بقصد أو دون قصد يتم تبنّي منطق مثالي سائد من حيث وضع الأفكار في المقام الأول والأخير في تغيير الواقع، فيبدو لنا أنّ أبرز أعراض الإصابة بمرض الكاريكاتورية عند الكُتّاب بشكل خاص هو تقشيرُ التاريخ المعقَّد في ظواهر لكن ليس إلى الوصول إلى اللب– رغم أنه لا بدّ من «التقشير» للوصول إليه بطبيعة الحال– بل يكتفون بالحصول على القشرة. وبتعقد مرضهم يصبحون عبارةً عن «مُقَشِّرين» متنافسين فيما بينهم من حيث تفريغ التاريخ من جوهره، وتقديم حدثٍ ظاهر أساسي من سياقه على أنه قشرة جميلة مفصلية غيَّرت تاريخ البشرية، أو قشرة دميمة دمَّرت تاريخ البشرية.
لا شكَّ أن الأفكار، المقولات، النظريات لها دورٌ أساسي لا غنى عنه عند الحديث عن التغيير، ولكن هذا الجانب النظري جزءٌ من عملية المعرفة، وكما نعلم «ينتصر في نهاية المطاف من ينتصر معرفياً». رغم أنَّ مفردة المعرفة قد تعطي أحياناً وقعاً خاصّاً يدل على شيء نظري مجرَّد، وهذا صحيح بشكل جزئي كون عملية المعرفة لها ثلاثة عوامل أساسية: (التأمل الحي، التفكير، الممارسة).
كل واحد من هذه العوامل ضروري، إذْ إنّ كلاً منها يعطي ما لا يستطيع العاملان الآخران إعطاءه.
هذا التأثير المتبادل بين العوامل الثلاثة يشمل كلَّ عملية المعرفة من بدايتها حتى النهاية علماً بأنّ الأساس والعامل الحاسم في هذا التأثير المتبادل هو الممارسة. معنى ذلك، عندما يفسر الباحثون الكاريكاتوريون حركة التاريخ دون التوقف عند عامله الأساسي (الممارسة) سنحصل منهم على قشرة الماضي، وليس لبّه أيْ جوهره.

مِن التقشير إلى التفسير والتغيير

لِنَرَ معاً إذا كانت أداةُ ستانسلافسكي (قَشَّارة) أم (حَفَّارة) عند العمل على النّص الذي اقترحناه: (ثلثُ العالَم شيوعي).
ما هو الشيء الأساسي الذي من دونه لا يمكن لهذا النصّ أن يكون؟ - الرأسمالية.
ما هو الشيء الأساسي الذي دونه لا يمكن للرأسمالية أن تكون؟ - ملكية البرجوازية لوسائل الإنتاج.
ما هو الشيء الأساسي الذي دونه لا يمكن للبرجوازية تملُّكُ وسائل الإنتاج؟ - حرمان العمال منها، مما يدفعهم للاتحاد.
ما هو الشيء الأساسي الذي دونه لا يمكن للعمال أن يتحدوا؟ - التنظيم.
ما هو الشيء الأساسي الذي دونه لا يمكن تنظيم العمال؟ - البرنامج.
ما هو الشيء الأساسي الذي دونه لا يمكن صياغة برنامج؟ - الرؤية.
ما هو الشيء الأساسي الذي دونه لا يمكن إيجاد رؤية؟ - النظرية.
ما هو الشيء الأساسي الذي دونه لا يمكن وضع نظرية؟ - الممارسة.
وفق تلك الأجوبة حصلنا على العمود الفقري للنص، ولكن السؤال الأكثر أهمية: ما هو الهدف الأعلى من هذا النص؟
ربما الإجابة سنجدها عند النظر بتمعُّن من جديد إلى السياق التاريخي، كما فعل الكثير من قبلنا، بذلك سنمشي ونكمل طريقهم في تغيير مجرى سياقٍ متدفّقٍ بجنون نحو فنائنا كجنس بشري، بحيث نستطيع منعه من الاستمرار بكونه آلة رأسمالية عملاقة بيد قلة قليلة هدفها الأعلى الربح، تدفعنا قسراً للعمل في داخلها كالبراغي، قامعةً فينا طبيعتنا الأصيلة، ونكمل كتابة «نصّ» التاريخ لنكون كأحرف ضمن أبجدية عريقة هدفها السامي الوصول بنا إلى الإنسانية الحرة، حيث لا إنسان فوقنا، ولا إنسان تحتنا.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1073