الفناء الروحي- العقلي وصورة البربرية المتقدمة

الفناء الروحي- العقلي وصورة البربرية المتقدمة

من المناسب جداً في مراحل الأزمة التي تصل فيها الظاهرة إلى نهايتها المنطقية أو تلامس تلك الحدود، من المناسب حينها أن نلتقط قانون حركتها الداخلي. ولأن الواقع العالمي المضطرب لا يحمل ذات مستوى التطور بين المجتمعات، عملاً بقانون تفاوت التطور نفسه، هناك بعض المجتمعات التي تسمح بسبب حدة اضطرابها أن تقدم لنا مساحة تاريخية لالتقاط قانون حركة بعض الظواهر، ومنها بالتحديد الإنسان وبنيته العقلية- النفسية، وهذا ما لا تسمح به بنيات اجتماعية أخرى ما زالت وبسبب بعض هوامشها لم تتعفن كغيرها.

الإنسان هو البنية مشخصنةً

يقول ماركس إن الرأسمالي هو رأس المال متمثلاً في الإنسان. وهذا بالطبع لا يصح على الرأسمالي فقط، بل يصح على مجمل القوى الإجتماعية، فالوعي بالنهاية هو انعكاس للوجود الإجتماعي، ولكن هذا الانعكاس يشكل الوعي كما هو يشكل الشخصية وقانونها. ومن هنا فإن التطور التاريخي في البنية الاجتماعية يعني بالضرورة تطوراً في الشخصية وبنية الوعي ككل. ولا نتكلم هنا عن تطور الأفكار نفسها بل تطور منطق التفكير وحركته وانقسام الوعي وأقسامه ومستويات التفكير، إلخ.
فما هي الملامح التي وصلت إليها الشخصية وبنية الوعي اليوم انطلاقاً مما وصله تطور قانون الرأسمالية نفسه؟

الوعي المنقسم والشخصية المعادية لنفسها

قلنا في مواد سابقة أن الوعي المهيمن في الرأسمالية وفي تعارضه مع قانون الواقع ونكرانه لحقيقة هذا القانون يؤدي إلى انقسام في عقل الإنسان نفسه بين القسم المفكر وبين قانون العقل نفسه، أي إن الفرد لا يفهم نفسه بكل بساطة. وهذا الانقسام هو الذي عبرت عنه المدارس السائدة في العلم من خلال نظرية الوعي- اللاوعي مثلاً ولكنها اعتبرت أن هذا الانقسام مطلق. بينما قال الباحثون السوفييت الأوائل بأن هذا الانقسام هو انقسام تاريخي لا أكثر. وهذا الانقسام هو اليوم قاعدة التفكك الداخلي للفرد في اتساع الهوة بين القسم المفكر وبين الحاجات الفعلية والمعاني التي يسعى الفرد إلى تحقيقها. وهذا ما يولد تناقضات داخلية تعطل الفرد عن الحركة واحتراقه العقلي كتعبير عن التعطل الواقعي في الرأسمالية، أي في التناقض الناتج عن الاغتراب بين الإنسان وممارسته.
وفيما يخص الشخصية قلنا أيضاً في السابق إن الشخصية هي التعبير الفردي عن المنهجية المعتمدة في التعاطي مع الواقع. وهذه المنهجية هي تعبير ونتاج التصور عن العالم. وهذا التصور عن العالم هو بالنهاية ما يقدمه وعي الرأسمالية المهيمن للأفراد ولفهمهم لواقعهم ولعالمهم. إذاً، وإذا استعرنا البحوث في مجال العلوم والمنهجية، ونقلناها إلى مجال الشخصية والوعي، يمكننا وبكل بساطة أن نسقط ما أنتج في هذا المجال فنحصل على مخطوطة العلاقة بين الشخصية والتصور عن العالم.
ماذا نستخلص مما سبق؟ إذا كانت الشخصية هي المنهجية التي يتضمنها التصور عن العالم، فإن الرأسمالية أعلنت أن الفرد وفي تحقيقه لذاته يضع الاستهلاك ومراكمة المال في مقام الأهداف الأساسية. هذا ما كان في مرحلة استقرار البنية بالتحديد، أي ما بعد تقديم الليبرالية كنمط حياة بعد الحرب العالمية الثانية قبل أن يتعطل نمط الحياة الرأسمالي في العقدين الأخيرين. وهذا القانون الفردي في معزل عن تطور الجماعة وضع الفرد في عزلة. ومع تعطل قنوات الممارسة الواقعية لتحقيق أهداف التحقق الليبرالية وضع المنهجية الفردية، أي الشخصية، أمام أزمة علاقتها مع الواقع.
هذا يعني أن الواقع أفلت من الشخصية، كون المنهجية هي القدرة على القبض على الواقع ومادته. وإفلات الواقع من الشخصية يمكّننا من القول إن الاغتراب عن الواقع وصل إلى نهايته المنطقية اليوم. وهذا هو الاغتراب عن الآخرين، وهذا هو التذرير الذي دفعت نحوه الرأسمالية حتى حدود الخلية الفردية. ولكن يمكن أن نضيف أن الاغتراب عن الذات وصل أيضاً إلى نهايتها المنطقية إذا ما أجملنا قضية الانقسام الداخلي للوعي. فإفلات الواقع من القسم المفكر والشخصية يعني أيضاً انفلات الواقع الداخلي منها. وهذا ما يجعل الشخصية معطلة ومعلقة في الفراغ.

تعطل الشخصية هو فناؤها

إن الوعي والشخصية هما نتاج فيض الحركة الممارسية وسيرورتها. أي إن وحدة الشخصية ووجودها هو نتاج انعكاس الممارسة الواقعية وتماسك السردية والتصور الذي يحمله الفرد عن الحياة. ولكن ما إن يصيب هذه السيرورة تعطل وانقطاع يعني بالضرورة تجفيف منابع الشخصية، لا بل إنه تجفيف لمنابع الذات. ومن هنا الخلاصة أن وصول الاغتراب إلى هذه المستويات القصوى يقودنا إلى خلاصة ماركسية أخرى وهي أن العلاقات الرأسمالية اليوم لم تعد معيقة لتطور القوى المنتجة بل هي تعمل على تدميرها. هذا هو التحليل الملموس لمقولة تدمير القوى المنتجة.

توظيف ما سبق

نعيد القول مجدداً بأن مواجهة الإمبريالية وإن كان يحصل على المستوى الاقتصادي والعسكري والسياسي الفوقي، إلا أنّ مسار تدمير الحياة على الكوكب في جانبه الاجتماعي اليومي والعقلي والروحي هو أعمق بكثير، ويحتاج إلى تحول في نمط الحياة ونمط العلاقة مع الواقع. إذاً المطلوب هو تقديم نمط حياة جديد يقوم على إعادة ربط الإنسان بواقعه وإعطائه أدواراً حقيقية تتخطى المنهجية التي تضمنتها الليبرالية في مفهومها عن السعادة والتحقق. والاشتراكية في نسختها السابقة لم تصل هذا الحد في برنامجها الواعي، بل حصل ذلك ضمنياً من خلال تعظيم مساحة الثقافة والفنون والأدب والعلوم والممارسة السياسية للجميع. وعلى النسخة الجديدة أن تنقل الضمني إلى المستوى الصريح (يمكن هنا مراجعة المادة السابقة، قاسيون عدد 1071). في الخلاصة يجب تقديم حلم للبشرية في مواجه الفناء المحقق الذي لم يعد بعيد الحصول، طبيعياً ومعنوياً- عقلياً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1072