الحركة الفلسفية في الأندلس /2/
أهم عمل قام به ابن رشد هو شرح فلسفة أرسطو بطلب من الأمير الموحدي، ووضع على هذه الكتب ثلاثة شروح صغير ومتوسط وكبير، وتخصص لذلك. وكان يعجب بأرسطو إعجاباً شديداً ويعده المثل الأعلى للإنسان ويشيد بذكره في كل مناسبة، ولذلك لم يخرج عن أرسطو إلا في القليل النادر، وكان أخلص له من ابن سينا الذي خالف منطق أرسطو وخطّأه.
وألف منطق المشرقيين، وكان من مظاهر تقديسه للفيلسوف اليوناني أنه كان يرد على ابن سينا والفارابي والغزالي حين يخرجون عليه، ووقف طويلاً في الرد على كتاب لابن سينا وتهافت الفلاسفة للغزالي. وأثار مسائل هامة أثارها علماء الكلام في الإسلام كما أثارتها فلسفة أرسطو.
وكان المتكلمون كالمعتزلة أثاروا مسائل على نحو عاصف، ثم أثارها الفلاسفة المسلمون على نحو آخر. والقرب بين منهج المتكلمين ومنهج الفلاسفة هو أن المتكلمين يؤيدون التحول إلى الإسلام وأخضعوا آراء فلاسفة اليونان لحكم الإسلام. فخضوعهم للفلسفة ودخلوا في بحث موضوعي مجرداً عن أي اعتبار، ولذلك لم يعجب فيهم المتكلمون.
وقد تعصب ابن رشد لمنطق أرسطو واعتقد أنه لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى الحق إلّا به. ويأتي الإنسان تابع لمقدار معرفته للمنطق. وقد عد ابن رشد بأنه خارج عن السنن الإسلامية في ثلاثة آراء:
1_ قوله بقدم العالم ونظام العقول، وصدور كل عقل عما قبله.
2_ ارتباط المسببات بالأسباب على وجه لا يسمح بالمميزات.
3_ قوله ببقاء الكليات وحدها وفناء الجزئيات.
وكان ابن رشد يقول إن العقل لا يتجزأ على عدد الأفراد، وأنه واحد في سقراط وأفلاطون. فالإنسان شخص مقرر من حيث الحواس لا من حيث العقل لأن العقل لا يتجزأ. وأن ما يفنى بعد الموت هو الحياة الإنسانية العلمية لا الحياة الفردية. وعلى هذا يكون من الصعب على رأيه فهم ما جاء في الدين من الخسر والعبث والعقاب.
وكان يرى أيضاً أن الدين شرع للخاصة والعامة، والفلسفة للخاصة وحدهم. وقد عني ابن رشد في فلسفته بالتوفيق بين الدين والفلسفة. وكان يقول في الدين حتى يتمشى مع الفلسفة وألف في ذلك كتابين:
1_ فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال.
2_ الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة.
وفيهما وقف موقفاً وسطاً في عقيدة القضاء والقدر. وقد هاجم في كتاب تهافت التهافت الغزالي بأنه سفسطائي يساير الجماهير. كما انتقد من قبله ابن سينا والفارابي ورماهما بالغموض أحياناً أخرى.
والحق أن فلاسفة المسلمين انقسموا في موضوع الشريعة والفلسفة إلى ثلاثة أقسام:
أكثر فلاسفة المسلمين كإخوان الصفا وابن سينا وابن رشد رأوا أن يوفقوا بين الفلسفة والشريعة، فإذا رأوا في الدين ظاهره لا يتناسب مع النظريات الفلسفية أولوه تأويلاً قريباً أو بعيداً.
والثاني كالغزالي رأى أن ما أتت به الشريعة حق. وما أتت به الفلسفة بما يخالف الشريعة باطل مثل قدم المادة ونكران بعث الأجسام. ولذلك كفرهم في كتابه تهافت الفلاسفة.
وقسم ثالث رأى بأن النظريات الفلسفية صحيحة، وتعاليم الدين صحيحة كذلك، والتوفيق بينهما سخافة. وأن الواجب أن يكون لكل منهما منطقة نفوذ. وأشهر من قال بذلك أبو سليمان المنطقي كما قال عنه أبو حيان التوحيدي في كتاب الامتاع والمؤانسة.
وإذا كانت الفلسفة اليونانية قد تعرضت للمسائل العلمية والاجتماعية وخصوصاً أفلاطون في جمهوريته. فقد تعرض لها ابن رشد أيضاً.
فنص على كراهيته للاستبداد العسكري والاقطاعات العسكرية، ورأى أنه لا اختلاف بين الرجال والنساء في الطبع. وإنما هو اختلاف في الهمم. أي إن طبيعة النساء تشبه طبيعة الرجال ولكنهن أضعف منهم في الأعمال. والدليل على ذلك مقدرتهن على جميع أعمال الرجال كالحرب والفلسفة وغيرها. ولكنهن لا يبلغن فيها مبلغ الرجال. وألمح في كتاباته إلى سوء الوضع الذي وضعت فيه المرأة في الشرق من عدم تمكينها لإظهار قواها كأنها لم تخلق إلا للولادة وإرضاع الأطفال.
وقد كان من تلامذة ابن رشد بعض اليهود، إذ كانوا يحضرون حلقه مستجيبين إلى دروسه. وعندما مات ابن رشد، نشر هؤلاء اليهود فلسفته وترجموا أكثرها إلى العبرية. ثم ترجموا شروح ابن رشد إلى اللاتينية. ومن أشهر من فعل ذلك ميخائيل الإسكتلندي سنة 1230 م ونشاط اليهود في نقل فلسفة ابن رشد وشروحه على أرسطو هي التي فتحت لأوروبا باب الفلسفة اليونانية.
وقد أثار نقل فلسفة ابن رشد وأرسطو هياج الكنيسة على المشتغلين بالفلسفة. حتى أن الكنيسة حرمت الاشتغال بهذه النظريات الفلسفية في القرن الثالث عشر الميلادي. وهذا الصراع بين الكنيسة وأرباب الفكر، كان أحد الأسباب التي جعلت بعض المفكرين يخروجون على الكنيسة وسببت في أوروبا النهضة الحديثة. وجعلت بعض الفلاسفة كروجر بيكون ينتقد الفلسفة القديمة وفلسفة أرسطو بوجه خاص، ودعا إلى عدم الخضوع لأرسطو خضوعاً تاماً. كما دعا إلى تحكيم العقل في كل ما يعرض عليه وعدم الإيمان بشيء مهما كان قائله إلا ما دلت عليه المشاهدة والتجربة. ومنذ ذلك الوقت أخذ العقل البشري يفكر على هذا المنهج الجديد.
لم تظهر الفلسفة في الأندلس إلا في القرن الرابع الهجري حين أتت من العراق إلى الأندلس. ولكن في نظير ذلك تأخرت حياة الفلسفة في الأندلس بعدما ماتت من المشرق لأن الغزالي وأمثاله في المشرق استطاعوا بدعم من الخلفاء أن يخمدوا صوت الفلسفة فيه. ولكن فلاسفة الأندلس استطاعوا أن يستمروا في إحياء الفلسفة ويردوا على الغزالي وأمثاله. ولذلك ظلت الفلسفة في الأندلس بعد موتها تقريباً في المشرق.
ويقول أحمد أمين إن شهرة ابن رشد الكبيرة التي غطت على شهرة ابن سينا والفارابي في أوروبا ترجع إلى أمور:
1_ قوة شخصية ابن رشد.
2_ تلمذة اليهود ونشاطهم في ترجمة مؤلفاته ونشرها.
3_ استعداد الوسط النصراني واليهودي إذ ذاك للتفلسف وحاجتهم إليه بعد أن بالغ رجال الدين في الحجر على حرية الفقه، فكانت حركة ابن رشد رد فعل قوي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1053