الحركة الفلسفية في الأندلس /1/
نشأت الفلسفة في المشرق من الطب والتنجيم لعناية الخلفاء بها، إذ كانوا يحتاجون إليها كثيراً، وكان بعضهم يؤمن بالتنجيم، وبما سيحدث في الكون، وكذلك كان الشأن في الأندلس والاشتغال بالطب والتنجيم يوصل إلى الفلسفة، فقد احتاج الخلفاء الأولون إلى أطباء يداونهم، والطب كما معروف يحتاج إلى معرفة النباتات وخصائصها والعقاقير وما إليها.
ومتى سار الطبيب في ذلك احتاج إلى المنطق لمعرفة الأدوية والاستنتاجات العميقة في معالجة الأمراض، ومتى اتصل بذلك، اتصل بجالينوس وأفلاطون وأرسطوطاليس، فاتصل بالفلسفة. وكذلك الحال فيمن اشتغل بالتنجيم، ولذلك كان الفلاسفة الأندلسيون الأولين أطباء فقط. ومن أعانهم على التفلسف عوامل مختلفة حددها المرحوم أحمد أمين في كتابه «ظهر الإسلام» الجزء الثالث وهي:
1_ رحيل بعض البغداديين إلى الأندلس فعلموا أهلها ما وصل إليه أهل بغداد في الطب.
2_ اهتمام بعض الخلفاء الأندلسيين بالفلسفة كالخليفة الأموي الحكم الذي بعث الرسل إلى المشرق للبحث عن الكتب المتنوعة وشرائها وإرسالها إلى الأندلس ويذكر ابن أبي أصيبعة أن الكرماني القرطبي رحل إلى المشرق وجلب معه عند عودته إلى الأندلس رسائل إخوان الصفا.
3_ عندما كانت العلاقات تتحسن في بعض الأوقات بين خلفاء بني أمية الأندلسيين وبين القسطنطينية كان هؤلاء الأخيرون يهدون إلى خلفاء بني أمية بعض الكتب الفلسفية والأدبية.
ومتى أخذ الطب والتنجيم يتبلوران إلى الفلسفة، حتى ظفرنا بالفلاسفة الحقيقيين ويقول أحمد أمين: كان الاشتغال بالفلسفة موزعاً على نوعين:
1_ نوع أميل إلى التصوف منه إلى الفلسفة البحتة.
2_ والنوع الآخر اشتغل بالفلسفة الصرفة على النحو الذي سار عليه أرسطو، وكان في مقدمتهم الفيلسوف الأندلسي «ابن باجة» المعروف أيضاً بابن الصانع.
وقد وصف ابن طفيل الأندلسي حالة الفلسفة في بلده وحالة ابن الصانع الفيلسوف خير وصف فقال: إن هذا العلم– أي الفلسفة– أندر من الكبريت الأحمر. ولاسيما هذا الصقع- صقع الأندلس- الذي نحن فيه لأنه «هذا العلم» من الغرابة في حدّ لا يظفر باليسير منه إلا الفرد بعد الفرد. ومن ظفر بشيء منه لم يكلم الناس إلا رمزاً، فإن الملة الحنيفية والشريعة المحمدية منعت من الخوض فيه شيئاً فيه كفاية، وكان في طليعة الذين حاربوا الفلسفة. وكان واحداً منهم الغزالي الذي رد عليهم في كتابه المشهور «تهافت الفلاسفة». أما آخر الفلاسفة العرب وانضجهم فكان ابن رشد حمل علم الفلسفة في الأندلس وفيما جاورها من الأمم ويصبح فيلسوف الأندلس بلا جدال.
ينتمي ابن رشد إلى أسرة اشتهرت بالطب والفقه كأسرة ابن زهر، وكان الفقه من مداخل الفلسفة لسببين: الأول: أن الفقه والاشتغال به والبحث عن استنباط الأحكام يعلم العمق ودراسة الفلسفة دراسة عميقة. والثاني: أي الفلسفة لمّا كانت مكروهة في الأوساط الشعبية الأندلسية كان الفقه ستاراً يتخذه الفلاسفة حتى لا يتهموا بالزندقة والكفر.
ولد ابن رشد الفيلسوف في قرطبة سنة 520ه. ومنذ نعومة أظفاره أخذ العلوم الدينية المعروفة من الفقه وأصول الكلام، ثم حول اهتمامه إلى الطب، فدرسه ومهر فيه ويقول ابن أبي أصيبعة إن ابن رشد درس الطب والفلسفة عن ابن باجة، وسرعان ما انتقل من الطب إلى الفلسفة، ولكنه لم يشأ أن يظهر بالفلسفة حتى لا يتهم في عقيدته وقد قربه الخليفة الموحدي وهو الأمير يوسف، وقد صار أحب الناس إليه، وأن الأمير هو من طلب من ابن رشد شرح فلسفة أرسطو لأنه رأها غامضة، وقد ولّاه قضاء إشبيلية سنة 565ه ثم تولى رئاسة القضاء في قرطبة. وقد شكا كثيراً من العمل في الوظيفة لأنها تحرمه التفرغ للتأليف، وفي الأمير يعقوب بدأ الوشاة والمنافسون يرمون ابن رشد بأنه زنديق يجحد القرآن ويعرّض بالخلافة. كتب مرة على كتبه يصف المنصور بأنه أمير البرين فحرفوها إلى أمير البربر، وقد أعرض الأمير بادئ الأمر عن سماع هذه الوشايات، ولكنه أمام هياج الشعب وحب التقرب إليه تنكر لابن رشد وامتحنه وأخلى سبيله. وكان الطلبة ينتظرونه فهنؤوه بنجاته وعدم إصغاء الأمير إلى الوشايات فيه وتقريب الأمير إليه فقال: والله إن هذا ليس مما يستوجب الهناء، فقد قربني دفعة واحدة أكثر ما كنت آمل.
وزاد الأمر سوءاً أنه قد شاع عند العامة في وقت من الأوقات حصول أرياح شديدة تهلك الحرث والنسل، وأنها تكون كالرياح التي أرسلت على قوم عاد الذين ورد ذكرهم في القرآن، فروي عن ابن رشد أنه قال: والله وجود قوم عاد ما كان حقاً، فكيف سبب هلاكهم. ولو صح أن هذه الجملة قد قالها ابن رشد لكان معناها أنه يستبعد أن عاد وقصته مسطورة. فهاج عليه القوم وقالوا إنه ينكر القرآن، وزيادة على ذلك أنهم فتشوا في كتبه الفلسفية وأخذوا منها العبارات التي تنافي الدين. فأمر الأمير بمحاكمته. وقد شهد الجلسة الكبرى لمحاكمته وكان صريحاً وصادقا ًولم يتزلف للأمير، وكتبوا في قرار الحكم أنه مرتد من الدين وخالف عقائد المؤمنين، ومع ذلك لم يحكم الأمير بقتله نفاه إلى قرية قريبة من قرطبة سكانها من اليهود.
وقد وقع مع ابن رشد في قفص الاتهام أبو جعفر الذهبي وغيره، وتغير عليه تلامذته لما وجدوه يضطهد، وقد روي عنه في هذا الموقف أنه قال: أعظم ما طرأ علي في النكبة أني دخلت أنا وولدي عبد الله مسجداً بقرطبة، وقد حانت صلاة العصر، فثار علينا بعض سفلة العامة، فأخرجونا منه، عفا عنه الأمير ولكنه لم يعش بعد ذلك طويلاً فتوفي سنة 595ه وله من العمر خمسة وسبعون، وكان قد استدعي إلى مراكش، فمات بها، ثم حمل إلى قرطبة ودفن فيها.
وقال أحمد أمين: وبوفاة عبد الله بن زهر وابن البيطار وابن رشد، أصيبت الأندلس بالبوار، فقد كانوا كلهم علماء عظاماً في الفلسفة، فأقفرت البلاد منهم، كما أن وفاتهم بعد موت ابن زهر وابن طفيل إنذار بأفول شمس الفلسفة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1052