المرض النفسي كإجابة عن سؤال: لماذا نقتل؟
لم تكن المسلسلات التي تصنّف تحت نوع «الجريمة» أو «الإثارة والغموض» كثيرة في تاريخ الدراما السورية. فباستثناء مسلسل «جريمة حصلت في الذاكرة» (1992) المُقتبس عن إحدى روايات أغاثا كريستي، لم يتم التركيز على إنتاج هذا النوع الدرامي مقارنة بالدراما الاجتماعية، التاريخية، والكوميدية التي شكّلت قوام الإنتاج الدرامي السوري.
أحد الأسباب وراء ذلك يرجع أحياناً لضعف المقدرات الفنية والتقنية التي يتطلبها إنتاج أعمال من هذا النوع بالنظر إلى إيقاعها السريع والمحكم، وحاجتها إلى توظيف تأثيرات خاصة. السبب الثاني والأعمق يرتبط بالسياق؛ فسورية ظلت حتى وقت طويل مجتمعاً آمناً نسبياً، ولهذا وجد صنّاع الدراما أن الوظيفة الاجتماعية أو السياسية لنتاجهم الفني تتركز على تفكيك بنية المجتمع والأسرة ومعالجة مشكلاته، والتطرق لعلاقة الناس مع تاريخيهم.
لكن الحال اختلفت بعد 2011 مع درجات من العنف غير المسبوق، ودرجة الفوضى التي سادت ضمن المجتمع، والتي بررت ظهور أعمال جديدة تنطلق من أحداث أكثر إثارة كالجرائم والعصابات وأحداث العنف، ببساطة لأن الواقع بات أيضاً مليئاً بها.
بصورةٍ لا شعورية، يبدو أن هناك سؤالاً حرّك كتّاب الدراما كسائر الناس: من أين جاء منبع هذا العنف غير المسبوق؟ وكيف يرتكب الإنسان جريمة قتل ولماذا؟ أو كيف يتحوّل الإنسان العادي إلى قاتل؟ لكن عمق الأسئلة ومبرراتها لم تنتج عمقاً في الإجابات.
المرض النفسي كإجابة:
رغم أنه لا جدال حول حقيقة أن أي قاتل يرتكب جريمة قتل هو مضطربٌ بالمعنى النفسي، ولا يمكن اعتباره شخصاً سوياً. لكن مع ذلك لا بد من إلقاء نظرة على التبسيط الذي تصدّر فيه الدراما السورية المرض النفسي كمبرر لأفعال الشخصية الإجرامية.
في مسلسل «الكاتب» (2019) من إخراج رامي حنّا، الذي تدور أحداثه حول يونس مؤلف أعمال بوليسية متهم بسلسلة من جرائم قتل وقع ضحيتها نساء من معجباته أو حبيباته السابقات. تكشف الحلقة الأخيرة بأن الفاعل الحقيقي هو المحامية «مجدولين» التي ورطته في تلك الجرائم كي تدافع عنه وتجبره على الوقوع في حبّها. اللافت في الموضوع أن شخصية المحامية صُورت طوال المسلسل كشخصية إيجابية ورقيقة. ليتم تبرير التحوّل في شخصيتها بكونها عانت في صغرها من اضطرابات ما بعد الصدمة، وبالتالي ارتكبت عدة جرائم دون وعي منها. لينتهي العمل بمشهد عائلتها تأتي لزيارتها في مصحٍ عقلي، وتصطحب أولاداً أيتاماً كانت مجدولين قد تولت رعايتهم طوال امتداد المسلسل.
وفي مسلسل «أولاد آدم» (2020) من إخراج الليث حجو، يتم تبرير سلوك الإعلامي غسان، الانتهازي والمؤذي الذي يصل في أفعاله حد القتل المباشر، بكونه شخصية «سايكوباثية»، وهو شكل من أشكال اضطراب في الشخصية يمارس صاحبه سلوكاً ضد المجتمع (anti-social)، ويمتاز بالغطرسة والخيانة والتلاعب بالآخرين، مع افتقاد الشعور بالتعاطف تجاه ضحاياه.
قيد المجهول
يأتي «قيد المجهول» (2021) من إخراج سدير مسعود متصدراً مسلسلات الغموض التي ترتكب فيها جرائم قتل بشعة. لكن هذا العمل تحديداً يستحق وقفةً خاصة على اعتبار أنه أحد أهم الأعمال التي قُدمت هذا العام من الناحية الفنية والبصرية. ولذلك فالنقاش ينصب هنا على مقولة العمل والطروحات الأساسية التي يتبناها.
لا بد من السؤال بدايةً عمّا يمثله «سمير» بطل قيد المجهول للسواد الأعظم من السوريين، ويبرر موجة تعاطف وتماهي الجمهور معه. فهو ابن الطبقة المسحوقة، يمارس عملين كخياط وسائق تكسي، وهي أعمال بالكاد تكفي مستلزمات أسرته. كما أن شخصيته الضعيفة، تجعله دائماً موضع سخرية وتنمّر، وتحديداً من بعض شخصيات الطبقة الغنية في المجتمع السوري، والتي تمارس أعمالاً غير شرعية كبيع الأسلحة والاتجار بالممنوعات.
هذه المقدمة كافية لفهم أسباب التعاطف معه، وتبرير دوافعه للانتقام، لكن ماذا يقول المسلسل بدلاً من ذلك؟ يقول: إن سمير (ونحن من ورائه) شخص مهزوز ومصاب بـ «اضطراب الهوية التفارقي» الذي يدفعه إلى اختلاق شخصية وهمية تدافع عنه، وتقتص من ظالميه، وتنوب عنه في تنفيذ أفعال إجرامية عجز هو عن فعلها. والخطير في هذه المقولة: أنها من ناحية تروّج للتطبيع مع السلوك الإجرامي، لأننا وحتى اللحظة الأخيرة نكون مقتنعين تماماً بأن سمير مظلوم ولا صلة له بتلك الجرائم، وحينما ندرك مسؤوليته نغفر له ما فعله. ومن ناحية أخرى مكمن الخطورة يتجلى في الترويج لفكرة أن فعل الانتقام، أو الانتفاض من أجل الحصول على الحقوق لا يتم إلا بصورة مشوهة وإجرامية، ولا تنفذها سوى شخصيات وهميّة وأبطال خارقين غير موجودين في الحياة الواقعية.
نظرة أعمق إلى المرض النفسي
كما قلنا، لا يمكن لشخصٍ سويّ أو معافى نفسياً ارتكاب جرائم قتل. لكن موجة تركيز الدراما على المرض النفسي، كمبرر مباشر ووحيد لارتكاب جرائم القتل أمرٌ إشكالي لعدة أسباب. في البداية، ينقص المجتمع السوري عموماً (جمهوراً وفنانين وكتّاباً) التثقيف الكافي في مجال الصحة النفسية. فحتى الآن لا تزال زيارة الطبيب النفسي أمراً مُعيباً رغم الحاجة المُلحة عند شرائح واسعة للحصول على استشارات نفسية. كما أن المرضى النفسيين يوسمون بالجنون ويكونون في أحيان كثيرة موضعاً للاحتقار والسخرية، وبالتالي فالدراما من هذه الناحية توسّع الهوة بين الجمهور والمرضى النفسيين. من ناحية أخرى، يختار كتّاب الدراما السورية أمراضاً نفسية استثنائية ونادرة، ويُعممونها بحيث تبدو أكثر انتشاراً، وتُقدم كمبررٍ لفعل القتل. يتم اختيار هذه الأمراض لأنها مُعقّدة ومُركّبة، وبالتالي فهي مثيرة وجذّابة بالمعنى الفني، وستكون مُجدية فيما بعد بالمعنى التسويقي مقارنةً بالمعاناة الهادئة والصراعات اليومية للأناس العاديين، التي تبدو أشد مللاً وأقل إثارة. وأخيراً، لا بد من الإشارة إلى أن الجدل حول مسؤولية المريض النفسي عن سلوكه، ودرجة درايته بأفعاله وعواقبها، وما قد يترتب عليها لم يحسم بعد حتى من قبل الأخصائيين النفسيين وعلماء الاجتماع، وبالتالي لا يكفي القول بأن شخصاً ما مريضٌ نفسي حتى يتم التغاضي عن سلوكه، واعتبار أن هناك قوى ما تتحكم به وتوجّه أفعاله.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1017