الاستهلاك القَلِق زمن الوباء..
غيّر وباء كورونا، ضمن جملة الأمور التي غيّرها، نمط الاستهلاك على نطاق عالمي، فالأزمات المالية التي خلقها، وفقدان فرص العمل من جهة، وتقييد حركة الناس من جهة أخرى، أثّرت جميعها على الطريقة التي يُنفق فيها الناس أموالهم، إن امتلكوا أيّاً منها.
تقلق، تستهلك، تقلق أكثر
في الوقت الذي يعيش العالم برمته قلقاً جماعياً على الأوضاع الاقتصادية المُتعثّرة، قد لا يكون مفهوماً البتّة لماذا يميل البعض لإنفاق نقودهم على سلعٍ لا يحتاجوها بالرغم من علمهم أنهم قد يكونون مقبلين على أشد أيامهم ضبابية واضطراباً؟ كموضة التسوق الإلكتروني التي تصبح أكثر رواجاً اليوم.
لا يحتاج الناس اليوم دلائل جديدة تثبت وجود علاقة ارتباطية راسخة بين حجم الاستهلاك والقلق، وتحديداً في ظرفٍ يشبه الذي نعيشه اليوم مع الوباء. لكن ظهور الوجه الفج لنزعة الاستهلاك اليوم، يُعيد طرح الأسئلة حول الآلية التي استطاعت من خلالها منظومة رأس المال برمجة حاجات الناس واقتراح ما يُشبعها. كما لو أن الاستهلاك يتحوّل إلى شكل من أشكال الفاعلية والتعبير عن الحضور في ظل العجز عن الحركة والعمل والتواصل مع الآخرين.
ولفهم العلاقة بين القلق والاستهلاك يمكن العودة إلى قراءة أعمال بعض المُفكّرين الذين حللوا منظومة الخوف في الغرب، وبيّنوا كيف أن القلق اللاعقلاني الذي حكم المجتمعات الغربية من الموت والأوبئة والحروب النووية والباردة كان يتخذ في كل مرحلة أشكالاً جديدة، ويبحث عن منافذ مختلفة للتفريغ.
رمزيّة السلع: من الثلّاجة إلى لفائف ورق التواليت
ستبقى في ذاكرتنا صور الرفوف الخالية من لفافات ورق التواليت في السوبر ماركت والمعارك والشجارات للحصول عليها، وعربات التسوق المليئة بها، كتجسيد لذكرى بدء انتشار وباء كورونا والاستعدادات للتصدي له. بالنسبة لشرائح واسعة من سكان البلدان العربية، بدا الإقبال الهستيري على شراء ورق التواليت- قبل الأطعمة والكمامات- في بلدان مثل: أمريكا وبريطانيا وألمانيا نوعاً من الاستعارات الثقافية غير المفهومة، كما لو أن القلق الجماعي، أظهر جرعة صادمة من الفردانية والهستيرية. فظهرت صور تسخر من سريالية ما يحصل، بالقول: بأن شاباً عام 2050 فتح الطرد الأخير من مخزون ورق التواليت الذي ابتاعه أهله عام 2020.
والحقيقة، أن نزعة الاستهلاك الذي يعمل القلق على تغذيتها كانت تبحث في كل مرحلة تاريخية عن سلعة أو مُنتج يُشبعها. يصف سيرجي قره- مورزا في «التلاعب بالوعي» كيف تحوّلت الثلاجة في الوعي الجمعي الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية، إلى رمزٍ للأم التي تحمي طفلها من الجوع، وكيف تحوّل خزن الطعام وتكديسه إلى وسيلة للسيطرة على القلق، بحيث وظّف المعلنون هذه المعلومات أحسن توظيف. يصف مورزا أيضاً: كيف استطاعت شركات الإعلان استثمار خوف الناس من الحرب النووية بالترويج للمكيفات الهوائية التي تضمن «تنقية الهواء داخل البيت» وعزله عما يحصل في الخارج.
واليوم، لا يحتاج المرء دقة ملاحظة استثنائية للانتباه إلى أن إعلانات مواد التنظيف والصابون والمعقمات تعيش عصرها الذهبي على شاشات قنوات عربية، مثل: مجموعة (MBC) وغيرها. ف 90% من الإعلانات مُخصصة للترويج للمنتجات التي تقتل 99,99% من الجراثيم، دون أي تجديد في طروحات القالب الدعائي القائم على جهود الأم التي تفني حياتها في تلميع الأرضيات، وتعقيم الحمامات، لحماية أسرتها من أمراض وأوساخ العالم.
العيش داخل ثلاجة الطعام
في مؤلفاته، كثيراً ما يشير مورزا إلى ظاهرة نفسية فريدة يسميها «أعراض الكافيتريا» وتتمثل بالحاجة التي تعتري سكان المدن إثر الضغط النفسي من العمل واستخدام وسائط النقل، بحيث يشعرون حين وصولهم إلى البيت بالحاجة إلى قضم شيء ما. ويؤكد مورزا أن لكلمة قضم أهمية خاصة هنا، فهي ليست مجرد عملية التهام للطعام استجابة لنوع من الجوع.
فيما بعد، طوّر علماء النفس هذا المفهوم متحدثين عمّا يُسمى «بالجوع أو الأكل العاطفي» والذي يعني أن الناس قد يتناولون الطعام للتخلص من مشاعر سلبية، وليس فقط استجابة فيزيولوجية للإحساس بالجوع. وبهذا المعنى كانت فترة الحجر الصحي وما تلاها خير مثال على تعاظم هذا الشكل من الحاجات. أصبح استهلاك الطعام داخل المنزل، تكثيفاً لكل أشكال الاستهلاك الأخرى التي لم تعد متاحة خارجه، ويظهر هذا من كم الصور التي تسخر من رحلات الذهاب والإياب المتكررة إلى الثلاجة، والحوارات المتخيلة التي يجريها الناس مع ثلاجاتهم وأطعمتهم.
ما نريد مقابل ما نحتاج حقاً..
قد يكون من السهل الغرق في الوعظ والتقريع ولوم الناس على نزعاتهم الاستهلاكية التي تعبّر عن نفسها هنا أو هناك. لكن الدرس الأهم الذي يتعلمه من يقرأ كتابات مورزا هو عدم الاستخفاف بتصورات الناس، أو أوهامهم عمّا يريدونه، حتى وإن بدت تلك الرغبات غير منطقية، أو لا تتفق مع تراتبية هرم ماسلو للحاجات. فمورزا يستقي فكرته تلك ويطورها من عبارة كارل ماركس التي تقول: «الحيوان يريد الشيء الذي هو بحاجة إليه، أما الإنسان فهو يحتاج الشيء الذي يريد».
من جهة، لا يجب اليوم الاستخفاف بالحاجات الروحية والنفسية للناس زمن الكورونا، فإنفاق المال على سلع غير ضرورية، أو استهلاك الطعام بكثرة هي مجرد محاولات يائسة من الناس لتخفيف التوتر واستعادة الشعور بالسيطرة في مواجهة متغيّرات فجائية وكارثية لم يختبروها سابقاً.
لكن عدم الاستخفاف هذا لا يعني التشجيع على النزعة الاستهلاكية، فأزمة كورونا كشفت بصورة مذهلة كيف ضللت التشكيلة الاقتصادية الناس، وجعلتهم يركضون وراء وَهْم حاجتهم للأسلحة، ومستحضرات العناية بالبشرة، وورق التواليت، بدلاً من المطالبة بحقوق الطبابة والخدمات الصحية والغذاء والعمل. يبدو بعد كل اعتبار أن احتياجات ملايين الناس في العالم ما تزال مُركّبة وفق الصيغة التي تصوّرها ماسلو في هرمه، حتى وإن بدا أن رغباتهم تحُّلق في مكانٍ آخر.
ربما يمكن الاستفادة اليوم من سابقة كورونا، التي أجبرت العالم للمرة الأولى على تأمل المنظومة الاقتصادية المسيطرة، وعلاقات العمل، والسلوك الاستهلاكي، والقيم الاجتماعية التي وصلت بنا إلى لحظة مثل التي نعيشها اليوم. وبالتالي، يكون هذا الوقت ملائماً جداً للبحث عمّا يُشبع حاجات الناس الروحية حقاً، ويُغذي شعورهم بوجودهم، ويخفف من اغترابهم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1007