«مْنِيمُونِيّاتْ» ثورية

«مْنِيمُونِيّاتْ» ثورية

تجري في الميدان العلمي منذ عقود طويلة عملية سرقة موصوفة من قبل التيار العلمي السائد. والمثير للغثيان، أن تلك السرقة تجري ضمن عملية استعراض عِلمَويّ مبالغ فيه. تجري فيها، ولهذا الهدف بالتحديد، عملية استيعاب المُنتَج العلمي المادي التاريخي، وتفريغه من جوهره الثوري بالتحديد. ومن تلك المحاولات تفريغ نظرية التطور الذهني التاريخي من معناها، في محاولة لتثبيت الوعي ضمن حدوده التاريخية، فلا جديد تحت الشمس، وهذا هو رعب الرأسمالية. فما هي قوة تلك الطروحات الثورية التي ستكون علامة تطور الوعي في عصرالإنسانية القادم؟

البعثة التي عادت في الزّمن!

في الزمن العاصف للثورة الاشتراكية البلشفية، التي طالت حرارتها كل ميادين الحياة، شهد العلم نقلة نوعية في مجاراة للنقلة الاجتماعية السياسية الحاصلة. فكان لا بد للعلم الإنساني أن يقوم بنقلته النوعية تلك. وظهر إلى الوجود علم الإنسان المادي التاريخي في شكله المتبلور، العلم هذا الذي تكوّنت مادته على مسرح التاريخ. حينها، حمل تلك المهمة عدة باحثين اعتبرو أن النظرة الماركسية إلى الوعي والإنسان يجب أن تتحول إلى نظرية علمية ممنهجة لها مقولاتها الخاصة، بعيداً عن المقولات العامة التي تقول بالانعكاس ومادية الفكر. التقى وقتها عقلان طبعا العلم النفسي بإنتاجهما، هما ليف فيغوتسكي (القادم من بيلاروسيا) والكسندر لوريا (القادم من قازان) اللذان التقيا في مؤتمر في ليننغراد في الزمن الذي كان لينين يهم به بالرحيل (عام 1923).

حسناً، إحدى قواعد العلم الجديد ارتكزت إلى أن انعكاس الوعي هو دائماً مُتوسَّط، تتوسطه أدوات مادية تصير لاحقاً علامات للتفكير، كاللغة مثلاً. فاللغة والمفاهيم تعمل كنظام إشارة تنقل الوعي إلى مستوى مجرد أعلى. هذه الأدوات هي كنظام عُقد الحبال مثلاً، التي تستخدمها بعض الشعوب القديمة من أجل تطوير نظام ذاكرة، حيث تصير تلك الحبال وعقدها أدوات ذهنية لتسهيل التفكير. وهذه المنهجية قالت بأن تطور الفكر يسير جنباً إلى جنب مع التطور الاجتماعي وأدوات الإنتاج التي هي بالنهاية وسيط الإنسان في علاقته بتحويل الواقع. فوعي عصر الأدوات المباشرة يختلف عن عصر التكنولوجيا الحديثة. ووعي الشعوب التي تتعامل بالأدوات المادية غير وعي تلك الشعوب التي تتعامل بالمعادلات الرياضية مثلاً.
ولدراسة هذه النظرة المادية التاريخية حول تطور الوعي، انطلق لوريا في بعثة إلى وسط آسيا، لدراسة مقارنة ما بين الشعوب التي كانت لا زالت لم تدخل بعد طور القراءة والكتابة. وحينها كان زميله فيغوتسكي طريح الفراش يعاني من السل (الذي قتله باكراً لاحقاً عام 1934 عن عمر 38 عاماً كان فيها إنتاجه غزيراً وأساسياً جداً لعصرنا، عصر الانتقال إلى الاشتراكية). فيغوتسكي هو واضع «رأس المال في علم النفس (في استعارة لـ «رأس المال في المجتمع» لكارل ماركس). من أهم خلاصات تلك التجارب الطوليّة في وسط آسيا: أن القدرات الذهنية للشعوب التي دخلت إليها القراءة والكتابة، ومن ثم الزراعة الجماعية ودخول التكنولوجيا إلى حياتها شهدت نقلات في التجريد والتعميم رفعت سويّتها الذهنية بشكل عام.

أين هي عملية السّرقة الموصوفة؟

هناك اليوم في ميدان علم النفس وعلوم الذاكرة حديثاً ما يسمى بفنون تقوية الذاكرة (ذاكِرِيّْ- Mnemonic)، والتي تستخدم في علوم التربية وغيرها من الميادين. كلّنا نعرف تلك الطريقة في تذكّر عدد أيام السنة عبر ترميزها على اليدين! أو تلك الطريقة في اختصار كلمات طويلة إلى كلمة مختصرة عبر جمع الأحرف الأولى من الكلمات. أو عندما يتم ادخال الخريطة الفعلية لأرض ما إلى الوعي، فتنتقل حركة الوعي نفسها إلى الخريطة التي صارت الآن «ذهنيّة». وبدون مبالغة، هناك استعراض كبير في «اكتشاف» هذه الطريقة وكأنها بدعة أطلت حديثاً على البشرية. وحتى لو حصل- إشارة إلى نظرية فيغوتسكي (نظرية النشاط الثقافي التاريخي) - أنها طالت هذا الجانب من دور الرموز في تقوية الذاكرة، إلا أن نظرية فيغوتسكي يتم تفريغها من جوهرها الثوري. ويتم اعتبارها أنها أسهمت إسهاماً ما في العلم، ولكن الدور الذي حملته تلك النظرية هو القيام بالنقلة النوعية نحو علم جديد يجري فيها تشكيل الإنسان الجديد في المجتمع الاشتراكي. هكذا بالحرف أعلن صاحبها فيغوتسكي، الذي اعتبر أن علم النفس لم يولد بعد، فالإنسان لم يولد بعد، في استعارة لمقولة إنجلز: إن التاريخ لم يبدأ بعد، وما نحن إلّا في مرحلة ما قبل التاريخ. إنها إذاً سرقة موصوفة، وتشويه في آن.

الجوهر الثوري لتلك النظرية اليوم

نحن ننطلق من أن الماركسية، ومنهجها التاريخي، ومقولاتها، هي النظرية التي عكست حركة الواقع الطبيعي والاجتماعي بشكل عام. هي أرقى ما توصل إليه الفكر البشري في تطوره التاريخي. حسناً، كيف يمكن أن ندمج النظرية التي أشرنا إليها مع قدرات الماركسية المنهجية والنظرية من أجل تطوير قدرات الوعي لدى الإنسان؟ في الفلسفة، هناك مثلاً مقولة شمولية الواقع المادي ووحدته، وهناك مقولة ترابط الحركة التاريخية وتكاملها. وفي الميدان السياسي هناك اعتبار أن الحركة السياسية العالمية (في عصر الإمبريالية تحديداً) مترابطة ومسرحها هو العالم كله. كيف يمكن أن نخرج بأدوات «منيمونية» (Mnemonic) ليس للذاكرة فقط، بل لتحويل الوعي نوعياً، وتمليكه بشكل صريح أدوات تفكير تصبح هي إطار حركة الوعي على أساس المقولات التي ذكرناها؟

الخريطة الزمنية

إن أغلب قادة العالم يتم تصويرهم أمام خريطة للكرة الأرضية عادة. في الحروب، لا تخلو طاولة القيادة العليا العسكرية من خريطة مسرح العمليات. هنا تحديداً، يجب أن تتحول الكرة الأرضية، كخريطة لحركة الوعي، من أدة خارجية، إلى أداة داخلية للوعي. فتصير هي نفسها الوعي. وتحديداً الوعي السياسي الشامل. هذه الخريطة ولا شك يستخدمها من يتعاطى الفكر السياسي من موقع متقدم، ولكنها غالباً تصير أداةً لتفكيرهم بشكل تلقائي. ولهذا يجب تجاوز التلقائية هنا، وتضمنيها في مناهج التربية النظرية السياسية للوعي الجديد، وقبلها للوعي الماركسي للمناضلين الشيوعيين. كيف تصير تلك الخريطة متحركة ومتكاملة تاريخياً؟ هنا تحديداً تدخل أداة جديدة إلى جانب الخريطة، هي المسار الزمني (Time line). لنفترض أن الروزنامة نفسها التي نعرفها تم مطها إلى خط زمني. هذا الخط الزمني يصير هو مسرحاً للتاريخ في وعينا. لا نقصد التعقيد أبداً، ولكن نحاول بدون الصور والرسمات أن نوصل الفكرة. هل يمكن تمرين الوعي الفردي على دمج الأداتين مع بعضهما لتصيرا مسرحاً للوعي؟ نعم. يصير الفكر عبر تلك الأداتين متكاملاً زمنياً، وشاملاً جغرافياً، ومتحرّكاً. ولا نقول: إن هذه الأدوات مغيبّة، بل ما يجب حصوله هو التدليل الصريح لدى إبرازها على أن يحوّلها «المتلقّي» إلى أدوات، وليس فقط لتسهيل عرض الفكرة عليه.

ماذا بعد؟

ما أشرنا إليه أعلاه هي أمثلة فقط على إمكانية ترميز الفكر المادي التاريخي عبر أدوات ملموسة لمساعدة الوعي على أن يرتقي- تجريداً وتعميماً- بنفسه إلى مستوى قوانين الجدل والتطور. أما في مراحل أرقى، يجب أن تتحول مقولات الجدل نفسها إلى أدوات للفكر، وليس فقط الرموز الملموسة كالخريطة أو الخط الزمني. لنأخذ مثلاً مقولة التطور النوعي: ما هي «المنيمونيات» المناسبة هنا؟ إلى جانب خريطة المسرح الجغرافي للكرة الأرضية، وإلى جانب الخط الزمني للتاريخ، يجب أن نضيف مستوى جديداً يعلو عن الخط الزمني القديم، مع خريطة جديدة كونها تحمل وجوداً جديداً. الخلاصة: إن لدى عِلْمَنا الثوري طاقات ليفتتح بها العالم الجديد، كوننا لا زلنا على تخوم هذا العلم وذاك العالم. والـ «منيمونيات» ضمن ترسانة الاقتحام هذا.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1005
آخر تعديل على الثلاثاء, 16 شباط/فبراير 2021 13:35