إعادة تدوير الفوضى..

إعادة تدوير الفوضى..

اليوم ورغم مرور عشر سنوات على بدء الحرب في سورية، ما زالت الطريقة التي تدار فيها الأمور عصيّة على الفهم، كما لو أن الحياة هنا تسير رأساً على عقب، هي بلادٌ بأكملها تحك أذنها اليمنى بيدها اليسرى وتأخذ دائماً الطريق الطويل، حتى وإن كان الطريق القصير سالكاً.

تدار الحروب بمنطق أخرق، و«لا منطقي» إلى أبعد حد، نظام الفوضى كما يسمونه، لكنه وكما يبدو وبعكس الانطباع الذي يتركه اسمه، فعّال وقادر على تحقيق الغاية من وجوده بدليل استمراره. هو إذاً نظامُ ناجح لأن مهمته تقتصر على توليد المزيد من الفوضى، بحيث يغرق المجتمع بأكمله في حلقة مفرغة من ردود الفعل، والاستجابات الطارئة والحلول الترقيعية والإسعافية التي لا تحل المشكلات من جذورها. فحل المشكلات من الجذور يعني انتهاء الفوضى، وهذا عكس المطلوب.

الاستثمار في الفوضى

لفهم ماهية نظام التشغيل هذا لا بد من تأمل عمليات إدارة وتحريك الأموال المرتبطة بكل ما يتعلق بالحرب السورية. ففي السنوات الماضية ضُخت مبالغ خرافية من المال على ترسانة التسليح من جهة بهدف إبقاء جذوة الحرب مشتعلة. أما على المقلب الآخر، فتم ضخ مبالغ أخرى على المساعدات الغذائية والإغاثية والمنظمات الدولية التي تدعم الطفل والمرأة وحقوق الإنسان، إلى جانب الأموال التي خُصصت في دعم النشاط الإعلامي والدعائي الذي كان عنصراً فاعلاً في هذه الحرب. تجلت ملامح نظام الفوضى إذاً في كون الجهات التي دعمت ومولت كل ذلك، كانت بغالبها واحدة، أو كما يقال باللغة الشعبية الدارجة: هي كانت نفسها ذات الجهات «إلي بتجرح وتداوي».

داخل السلة

في السنوات والأشهر الأولى من الحرب ظهر ما يشبه الاستجابة المُستعجلة والطارئة التي تسعى إلى سد بعض الاحتياجات الأساسية المرتبطة بالغذاء كيفما اتفق. حينها ظهر للمرة الأولى مفهوم السلال الغذائية الذي استبدل غنى المائدة السورية التقليدية، ووفرة خيرات البلد بخضارها وفاكهتها وألبانها ولحومها. كان المهم بداية سد الرمق وتأمين الحد الأدنى الضروري من الغذاء لإبقاء الأجساد على قيد الحياة. لم يفطن الكثيرون متى وكيّف تحوّلت تلك السلال بموادها الجافة المُخزّنة إلى الشكل الأوحد للغذاء المتاح. وما بدا طارئاً ومؤقتاً تحوّل إلى طبق يتناوله السواد الأعظم كل يوم. ومع مرور الوقت بات مفهوم السلة ذاته مهدداً، ما المكونات التي ستفقد منها بعد؟ بات الهاجس الإبقاء على السلة كما هي، لو كان ذلك ممكناً. فالفوضى على هذا الصعيد كانت تعني خلق أزمات اقتصادية دائمة، مثل: حرق محاصيل القمح وأشجار الزيتون أو احتكار مواد أساسية، وتعني: جعل أسئلة من قبيل: ماذا سنأكل غداً؟ وهل سنصل إلى اليوم الذي لا نجد فيه ما نأكله؟ أسئلةً مطروحةً كل يوم.

الاستثمار في طفولة بائسة

لم يلق أطفال مثل الأطفال السوريين هذا الكم من التعاطف، ولم يذرف العالم دموعه على أطفال مثلما فعل عليهم. لكن إذا ما تأملهم المرء اليوم؛ من أكثر الأطفال دلالاً حتى أشدهم فقراً، يراهم أكثر الأطفال بؤساً. من أطفال المخيمات والشوارع، مروراً بالعاملين في خدمات التوصيل وغسيل زجاج السيارات، ووصولاً إلى الأطفال في باحات المدارس. قد يحدث أن تمر بأطفال يتدافعون ويشتمون في الشارع، تسمع أحدهم يصيح في الآخر قائلاً: «لو بعت كليتي ما فيني جيب هالشغلة»، تسأل نفسك هل يعرف طفلٌ في التاسعة أساساً أين تتوضّع كليته داخل جسده؟ تسأل أيضاً متى علم بأن الحياة يمكن أن تمسي قاسية إلى تلك الدرجة التي يقتطّع فيها الناس أعضاءهم كي يبيعوها لقاء المال. تتأملهم أطفالاً، وتتساءل عن خطط اليونيسف والحملات الإعلامية ومنظمّات إنقاذ الأطفال، هل كانوا حقاً هنا كل هذا الوقت؟ وكيف يمكن لكل هذا الضخ في الاستثمار في الطفولة أن يساهم في إنتاج طفولة بائسة إلى هذا الحد. كان يمكن التفكير بألف سيناريو محتمل يليق بطفولة هؤلاء، أي سيناريو سوى هذا الذي بات حياتهم؟

ضجيج الإعلام البديل

في كل يوم جديد تطالعنا منصة إعلامية جديدة، ويوتيوبيون جدد، وبرامج توعوية وتنموية، برامج عن المجتمع السوري وما بقي منه، عن التراث والطعام والعملات والذاكرة. ومع هذا هناك الكثير مما لا يقال، أو بالأحرى، كل ما يهم حقاً لا يقال. يخضع الإعلاميون الجدد لدورات تدريبية، ويتم إهداؤهم معدات تصوير، كل ذلك من أجل استبدال الإعلام القديم بآخر جديد. لكن المشهد الآن يبدو أشبه بالضجيج، مؤسسات تظهر وتختفي، ووجوه تتصدر المشهد تارة ومن ثم تغيب. فالإعلام حتى يكون مؤثراً لا بد من أن يكتسب الثقة والاستمرارية ووضوح الهدف، وهذا ما لا يحصل. لأن نظام الفوضى يستخدم كما هو متوقع، الإعلام لخلق المزيد من الفوضى. الإعلام يلعب هنا دور مصنع لضخ عوامل تشتيت سمعية وبصرية ومكتوبة على مدار الساعة. فما يطلب من المنصات الإعلامية ووسائل الإعلام الجديدة بث أكبر قدر ممكن من الضجيج. وهذا ما يقال عنه أيضاً باللغة المتداولة: «جعجعة بلا طحين»، فالجعجعة هي التي تهم حقاً.

فوضى معاد تدويرها

من ميزات نظام الفوضى أيضاً استغلاله حسن نوايا الكثيرين، ورغبة الناس بمساعدة بعضهم بعضاً وإحداث تغيير في مجتمعهم. لكنه ينجح في المحصلة في تشتيت جهودهم، وجعلهم يستثمرون طاقاتهم في أنشطة لا تحدث القدر المطلوب من التغيير. وبناءً على ما تقدم، بات الآن ممكناً الإجابة عن أسئلة بسيطة من قبيل: لماذا يزداد وضع النساء سوءاً ويزددن تعنيفاً ويكنّ أكثر عرضة للتحرش في الوقت الذي زادت فيه المبادرات التي تعنى بشؤونهن اليوم، ووصلت أعدادها إلى درجات غير مسبوقة؟ لماذا تزداد طفولة الأطفال بؤساً؟ ولماذا لم تستطع كل الإعانات الغذائية إشباع الجياع؟ ولماذا تستمر الجروح في النزيف رغم كل قطع الشاش واللُصاقات الطبية التي وضعت عليها؟ لأن هناك أيدٍ تعبث في الجروح قبل أن تلتئم، وتشتت الجهود في أداء مهمات غير مجدية. فالهدف هنا ضمان إعادة تدوير الفوضى إلى ما لا نهاية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1001