هل تساهم المياه في توحيد «الشرق العظيم»؟
عديدة هي العوامل التي لها ملامح الأزمة الوجودية، التي تدفع فضاء الشرق الممتد من الصين إلى منطقتنا، نحو التكامل، ومنها قضية المياه وندرتها، توزيعها وتلوّثها. والمادة هنا في أساسها هي قراءة في كتاب «معارك المياه» (من أجل مورد مشترك للبشرية) لمحمد العربي بوقره الصادر عن دار الفارابي في بيروت.
بعض كلمات حول الكتاب والكاتب
إن الكتاب المنشور (عام 2006) ضمن سلسلة عالمية تحت عنوان «قضايا العالم» صادر ضمن مبادرة تعاون بين عدة دور نشر عربية، في إطار تجربة عالمية لما يسمى «تحالف الناشرين المستقلين من أجل عولمة بديلة» من أجل ما سموه «تجربة قراءة ديمقراطية». وهي بالأساس مبادرة تضم دور نشر وكتاب من القارات الخمس «من أجل نشر بديل». هدف المبادرة هو تخطي الحالة الاحتكارية في ميدان النشر والمعرفة، وضمت بالأساس 12 دار نشر باللغة الفرنسية، من بينين وتونس وساحل العاج وكندا وفرنسا والكاميرون وغابون وغينيا ومالي والمغرب وسويسرا، لتعزيز تجربة «الكتاب المتكافئ» (مع أن بعض كتب السلسلة تتوافر باللغة الإنكليزية والبرتغالية، والتي ستشارك في المبادرة دور نشر باللغة الإسبانية والصينية). التعاون لا يقوم فقط على مستوى التشاور حول القضايا الملحة المطروحة على الساحة الدولية، كالموارد الطبيعية والمناخ والعلاقات بين الشمال والجنوب... بل يقوم أيضاً على التكافؤ في كلفة النشر مع الأخذ بعين الاعتبار القدرة المالية للدور في كل دولة.
والكاتب (محمد العربي بوقره) هو تونسي درس الجغرافيا وعلم النفس التربوي في جامعة ساوثرن كاليفورنيا (لوس أنجيليس- الولايات المتحدة) وحائز على دكتوراه دولة في الفيزياء من جامعة السوربون (باريس- فرنسا). بوقره كان ضمن حياته الدراسية مناضلاً في الاتحاد العام لطلبة تونس. عمل في البحوث والتعليم والنشر في عدة جامعات ومجلات أجنبية وعربية، إضافة إلى تنظيمه البرامج الإذاعية، وكان مديراً للمعهد التكنولوجي للفنون والهندسة المعمارية والتنظيم المدني (تونس)، ومدير للمعهد الوطني للبحث العلمي والتقني (تونس). وهو مستشار لمنظمة الصحة العالمية في حقل علم السموم البيئية، ولليونسكو. وهو «مُحرِّك» برنامج المياه لشبكة «التحالف من أجل عالم مسؤول متعدد ومتضامن». ويتطرق الكتاب بداية إلى محورية المياه في الصراع العربي- الصهيوني. ويضم الكتاب ثلاثة أقسام موزّعة على 13 فصلاً. وتتراوح العناوين من المياه عبر التاريخ وبعدها الرمزي في الفن والأدب، إلى البعد الجيوستراتيجي والسياسي للمياه وقضية «البدائل» والتنمية ودور السوق والرأسمالية في تسليع المياه، وصولاً إلى المياه والصحة كالتلوث والسدود.
عدم العدالة الموضوعي
على الرغم من تسميته بالكوكب الأزرق، إلّا أن المياه العذبة على سطح الأرض لا تتسم بالتوزيع العادل بين مختلف أراضي اليابسة وبين القارات. فمثلا هناك 23 دولة تضم حوالي ثلثي مصادر المياه في العالم، وتضم 14 دولة في الاتحاد الأوروبي والبرازيل وروسيا والولايات المتحدة وكندا والهند وإندونيسيا. بينما آسيا لا تحتوي إلا على 36% من موارد الكوكب المائية، وهي تضم في ذات الوقت 60% من سكان العالم. أما أمريكا الشمالية والوسطى فتضم 18% من الموارد المائية في مقابل 8% من السكان. أما الهند وهي الثانية من حيث عدد السكان فهي تضم 4% فقط من مياه الكوكب، والصين الأولى من حيث عدد السكان (حوالي 22% من سكان العالم) فهي تضم 8% من موارد مياه الأرض. أما الدول العربية التي تشكل مساحتها 10,3% من اليابسة على الكوكب، فهي لا تضم سوى 0,43% من موارد المياه (وتستفيد من 2% فقط من أمطار الكوكب).
التنبؤ بتصاعد الصراع
لهذا إن التوزيع غير العادل موضوعيا للمياه، إضافة إلى قضايا سوء إدارة الملف في مختلف الدول، والتلوث المتصاعد، ودور السوق والاحتكارات في السيطرة على الموارد، فإن المياه ولا شك هي «نفط القرن الحادي والعشرين» كما «تنبأ» مدير مركز المؤسسات الإنسانية التابع للأمم المتحدة، والّي نْدُوّ، في العام 1996، «إذا لم تحدث تحسينات ذات شأن، ولغاية العام 2010». وأشار الكتاب الذي هو قديم نسبياً (منذ 15 عاماً تقريباً)، مستنداً إلى عدة تنبؤات أممية في وقتها إلى أن الخلافات حول المياه ستتصاعد بين الدول، بل داخل الدول نفسها كما حصل في الباكستان، والهند والاحتجاجات في الدول الأخرى. فحسب نائب الرئيس الأسبق للبنك الدولي ورئيس للجنة العالمية من أجل المياه في القرن الـ 21، إسماعيل سراج الدين، الذي أعلن قُبيل المؤتمر الدولي في لاهاي (2000) أن «حروب القرن الـ 21 هي حروب حول المياه».
أرقام أخرى على الخريطة
حسب موقع worldwater.io (مياه العالم)، فإنه في كل ثانية يدخل شخصان في مجال ندرة المياه في العالم، ويبلغ هذا الرقم اليوم حوالي مليارين وربع المليار إنسان (أقل من 500 متر3 سنوياً). ويمتد شريط الندرة الأساسي هذا بشكل بارز على امتداد «الشرق العظيم» عابراً القارة الإفريقية حتى غربها. دون أن ينفي ذلك عدم وجود ندرة في المناطق الأخرى، ولو بنسب أقل تركيزاً من الشريط المذكور، كالشريط الساحلي الغربي لأمريكا الجنوبية والشمالية، والجنوب الإفريقي.
العالم «الهيدروليكي» الموحد
يشير الكاتب إلى مفهوم ماركس حول المجتمعات «الهيدروليكية» التي تتطلب إدارة مركزية موحدة لإدراة المورد المائي، كما كانت مصر- النيل، ووادي الرافدين، والصين والهند، والتي تشكلت دولها المركزية استجابة لهذا الملف الوجودي تاريخياً.
أما في ظروف اليوم، التي تتصاعد فيها حدة أزمة وحدة المجتمعات المتحورة حول اقتصاد الرأسمالية (الطرفية)، فإن قدرة الدول على تحصين ذاتها على صعيد الأمن الغذائي، والأمن المائي، وما يعنيه ذلك من أزمات اجتماعية وصحية وبيئية، تحتاج بشكل كبير إلى تعاون مشترك بين بعضها كدول، لا المنافسة. فالتعاون هو الطريق الضروري للحفاظ على الوجود. والمياه ليست خارج هذا الخط الضروري تاريخياً. فالخلاف المتصاعد مؤخراً بين مصر- السودان- إثيوبيا، لم يكن ظاهرة مفاجئة، بل تم التحضير لها تاريخياً لتفجير ذلك المثلث، الذي تتداخل فيه الخلافات الإثنية والدينية والمناطقية، والذي يتطلب حله الحوار، الذي أتى الصراع الحدودي مؤخراً بين إثيوبيا والسودان ليوتر المسار الحواري السابق. ومادة قاسيون حول آسيا الوسطى (مياه آسيا الوسطى: مشاريع الربط بوصفها ضرورة وجودية- في العدد 789؛ 2016) تصب في هذا السياق. وهناك عندنا قضية المياه بين تركيا- سورية- العراق، وصولاً إلى «شط العرب». أما دول الخليج فهي التي تعاني من النقص الكبير دون الاعتماد على مياه البحر المحلاة.
فالدول الوطنية اليوم، التي هي امتداد لفضاء «مائي» سابق تاريخياً، مضافاً إليها التشابك في الفضاء الاقتصادي اليوم كضرورة وجودية أيضاً، تتطلب إدارة موحدة لملف المياه وتوزيعها، أولاً: من أجل تجاوز عدم العدالة الموضوعي على الكوكب من جهة، في سياق تأمين المياه للأماكن والدول التي تنقصها مادة الحياة الأساس، خصوصاً في ظل قلة حصة المياه نسبة للحصة العالمية لهذه المنطقة الواسعة مساحة وسكاناً، ومن جهة أخرى، من أجل علاج قضايا التلوث والزراعات الحديثة غير المستهلكة للمياه بشراهة (وهو ما تقوم به الصين بشكل كبير لتعويض نقصها بالمياه كالزراعة في المياه المالحة، أو التعديلات الجينية للزراعة في الصحراء، أو ما يطلق عليه بالزراعة «الصبّارية» نسبة لقدرة نبات الصبار على مقاومة الظروف المناخية ونقص المياه لمواسم جفاف طويلة). وإلّا فإن خط التوتر سيكون محمولاً على مادة جديدة تضاف إلى الاتجاه التفتيتي المطلوب حصوله في هذا الفضاء الشرقي الحامي على تخوم روسيا والصين بشكل أساس. فـ”الماء هي نَظَرُ الأرض، وأداتها التي تنظر من خلالها إلى الزمن» حسب تعبير بول كولدويل.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1002