صراع المفاهيم.. الجبهة الأخطر!
اللغة ليست فقط وسيلة تواصل، بل تتضمن أيضاً المفاهيم والتصورات حول الحياة وتعكس بشكل مجرد كيف ينظر مستخدمو أيّة لغة إلى واقعهم ووجودهم. واللغة: هي دائماً تعميم ما حسب السوفييتي فيغوتسكي، بما تتضمنه من مفاهيم، والتي لا تمثل واقعاً واحداً، بل هي تعكس التناقض في النظام الاجتماعي نفسه.
لهذا فإن اللغة في مفاهيمها تعيش وجودين متناقضين في ذات الوقت، المفاهيم السائدة من جانب، والتي تعكس مصالح القوى المحافظة والرجعية، والمفاهيم المكبوتة والضمنية من جانب آخر، والتي تعكس الحركة الموضوعية لجانب من الواقع، والتي تعبر عن مصالح وحاجات قوى التغيير التي يتم إخفاؤها وتشويهها من خلال المكبوت والمقموع. وهذا ليس بحثاً جديداً أبداً، ولكن من الضروري التركيز عليه دائماً من أجل التمييز بين الوجودين المتناقضين للمفاهيم خلال ممارسة الصراع الفكري والسياسي، فاختلاف المفاهيم نفسها يعني: اختلاف النظرة للظواهر التي تعكسها هذه المفاهيم. هذا التمييز أساس عندما تتعدد الظواهر وتتعقد ويصبح من الضروري تحديد الرموز اللغوية التي تعكس الجوهر الحقيقي للظواهر. أو كما يشدد مهدي عامل أن الفكر يبدأ بدرس في اللغة.
الصراع السياسي واللغة
يشدد عالم النفس السوفييتي ليونتييف على هذا الوجود المتناقض للمفاهيم. ويشير إلى أن المفهوم يعيش حياتَين في وعي الإنسان. واحدة تعكس حركته في البنية الإيديولوجية السائدة والتي تتحول نتيجة التربية وأجهزة الدعاية والتعليم السائد إلى أدوات يفكر فيها الإنسان، ويدرك فيها نفسه والعالم من حوله. أمّا الحياة الثانية التي تعيشها المفاهيم: هي الجانب الحقيقي المرتبط بحاجات الإنسان الفعلية وأهدافه المرتبطة بهذه الحاجات. ويعتبر ليونتييف: أن بين الحياتَين تناقض، هو التناقض الطبقي نفسه. ويجب على اللغة أن تحرر المفهوم المكبوت، وهذا لا يتم إلّا بصراع فكري سياسي بين اللغة السائدة في محاولتها تثبيت الواقع وتشويهه. لا بل إن عبر اللغة (أو تدميرها) يجري أيضاً ضرب التاريخ لما تمثله اللغة من امتداد تاريخي للشعوب.
الشوفينية واللغة
هكذا إذاً، ليس الصراع بين لغات متعددة كما يحاول الفكر السائد في شكله الشوفيني اليميني أن يظهر مسألة اللغة في محاولته التشديد على أفضلية لغة ما على الأخرى، أو في تركيزه على أنَّ اجتياح مجتمعاتنا يكمن خطره في تنوع اللغات «الغريبة» التي تنتشر فيها. بل الصراع: هو في كل لغة بحد ذاتها، بين أن تكون اللغة تعكس الواقع الحقيقي للظواهر وقوانينها، وما تتضمنه من سبل للتطور، وبين أن تكون لغة السلطة في محاولتها تغييب التناقضات تشويهها. فاللغة العربية، وأية لغة أخرى قد تساعدنا على أن نفهم العالم بشكلين متناقضين. فليست الإنكليزية أو الفرنسية أو الإسبانية أو الروسية أو الصينية لغات تهدم ثقافتنا وتهدد وجودنا، بل إن مضمون اللغة السائد: هو الذي يجب أن يخضع للنقد في أية لغة كانت. والمطلوب: كشف وإنتاج الجانب التقدمي الذي يعكس واقعنا، وهي تصبح أيضاً مصدر غِنى ثقافي لمتعلميه، وامتداداً للتاريخ المشترك للشعوب. مثلاً: قد نجد مقالاً مكتوباً باليابانية عن ضرورة مواجهة الحرب، بينما نجد مقالاً انبطاحياً رجعياً يدعو للمذهبية والتقسيم مكتوباً بالعربية، فأي المقالين أخطر؟! فما بالك إذا كان تنوع اللغات نابعاً من ثقافات البلاد نفسها، وليس من قارة مختلفة؟ كتنوع اللغات الشديد في منطقتنا.
الصين والحفاظ على اللغة
في تعارض مع الخوف من التعدد اللغوي الشوفيني المشار إليه أعلاه، وفي مسعى للحفاظ على التنوع اللغوي والحفاظ عليه ودوره في الحفاظ على الإرث التاريخي للبلاد وتنوع الثقافات وغناها، أطلقت الصين عام2015 مشروعاً للحفاظ على اللغات المهددة بالاندثار في البلاد، وحتى الآن تمكنت من الحفاظ على120 لغة من أصل130 لغة في الصين (متضمنة مئات اللهجات). وهناك اليوم أكثر من1500 مركز للتحقق والبحث في إطار المشروع، حسب مدير مركز الحفاظ على اللغات في الصين «ساو جيون». وقالت د. أرمغاردا بودبيرغ، المتخصصة ضمن الأونيسكو: إن الصين تبذل بشكل ضخم مجهوداً ووقتاً وطاقة لتوثيق اللغات وتقديمها في الصين وخارجها. يذكر أنه في أوروبا كان قد أطلق برنامج مشابه عام 2002، وفي العام2016 أطلقت الأونيسكو أطلس اللغات المهددة بالاندثار، وفي العام2018 عقد أول مؤتمر دولي للحفاظ على المصادر اللغوية في الصين، المؤتمر الذي أصدر أعلانا كوثيقة في مجال الحفاظ على اللغات المهددة بالاندثار.
مثال آخر مباشر!
في محاولتها لكي تتلاءم مع الظواهر البيئة الجديدة، قامت صحيفة الغارديان بتغيير العديد من المفاهيم التي تعكس القضية البيئية اليوم. فهي غيرت مثلاً مفهوم «التغيّر المناخي» إلى مفهوم «حالة الطوارئ المناخية» و«الأزمة المناخية» و«الانهيار البيئي»، وغيرت مفهوم «ازدياد دفء الأرض» إلى مفهوم «سخونة الأرض». وفي استبدال مفاهيم بأخرى، تقوم الغارديان بعكس الجوانب الخطيرة التي أصبحت فاضحة في العلوم ومهددة للبشرية. وذلك بدلاً من المفاهيم السابقة «المحايدة» و«السلبية» و«الأكثر لطافة» كما اعتبرها بعض الكتاب.
وبغض النظر عن نظرة الغارديان لعمق وسبب ظاهرة الكارثة المناخية، إلّا أن المثل المذكور دليلاً على أن مفهوماً واحداً قد يُحوّل النظرة للواقع، فما بالنا إذا كانت الظاهرة التي يعكسها معقدة ومن السهل إخفاء جوهرها؟ كالقول مثلاً: إن في البلاد أزمة وطنية بدل أن نقول: هناك هجوماً خارجياً فقط. الأول: يتطلب تغييراً. أما الثاني: فلا يتطلب ذلك.
وبما أن هذه الأيام هي ذكرى استشهاده، نكرر مجدداً اقتباساً من مهدي عامل حين يقول: والحرب على الجبهة الفكرية أخطر وأدهى، فقد يطربك خصمك بكلماته، فيشل فيك القدرة على النقد.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 915