التيارات الفكرية المعاصرة والبحث في التراث
سلاف صالح سلاف صالح

التيارات الفكرية المعاصرة والبحث في التراث

ارتبطت النهضة التي بدأت بالتبلور في القرن التاسع عشر، واتخذت طابعاً قومياً عربياً في المنطقة بإحياء التراث الذي اتسم بسمتين أساسيتين: رجعية، بمعنى العودة إلى التراث دون تمحيص في جوانبه الثورية والتحري به. وتقدمية، بمعنى البحث عن الامتدادات الطبيعية للنواحي الثورية في تراث المنطقة، تحقيقاً للنزعة التحررية مزدوجة الطابع ضد الاحتلال العثماني، والاحتلال الغربي الأوروبي. غير أن إحياء التراث العربي الإسلامي كتراث للمنطقة ينتمي للحضارة الإنسانية واجه انتكاسة رافقت انتكاسة مشاريع القوى السياسية الأساسية السائدة.

نلقي في مقالنا اليوم بعض الضوء على التيارات الفكرية التقليدية (البرجوازية من موقعها السيادي- السلفية) التي تبنت إحياء تراث المنطقة في العقود الماضية.
ـ1ـ
يبحث الفكر البرجوازي في أسس التراث العربي الإسلامي، وهي (الصوفية- علم الكلام- الفلسفة)، وعوامل ظهورها وفق وجهة نظر مثالية- دينية لا علاقة لها بالجذور الاجتماعية، وأنها ناتجة عن جدلٍ في النصوص و(دلالاتها الظاهرية)، أو أنها شكل من أشكال مقاومة أديان سابقة تجاه الدين الجديد. غير أن أهم ما يخلص إليه منهج البحث هذا، هو أن الحياة الاجتماعية حتى في أدق تفاصيلها في ماضي منطقتنا وحاضرها، هي نتاجٌ مباشرٌ عن هذا الجدل في النصوص والكتاب، وعنه خرجت أسس التراث برمته في المنطقة.
غير أن منهج البحث ذاته يقع في تناقض لدى بحثه في مسائل النزاع حول خلافة الرسول، وحصره ضمن حدود حق ومطمح ذاتي فردي لطرف دون آخر، أو نزاع اجتهادي لفريق مع آخر حول النص، أي أن الخلاف (تشريعي ليس غير). وعلى ذلك فُصِلَ الدين عن المجتمع، رغم أنه صاغ حياته ماضياً وهو يصوغها حاضراً!
ونقطة الانطلاق في دراسة التراث وفق منهج البحث البرجوازي، تحصر التراث العربي الإسلامي بكونه عملاً فلسفياً من فلاسفة تلك العصور للتوفيق بين الدين والفلسفة، وهكذا فهي تضع علم الكلام والصوفية تحت مظلة الفلسفة العربية الإسلامية، التي ينظر إليها كفلسفة إسلامية- دينية متعلقة بالدِّين كعقيدة وشريعة، دون أي رابط بالقوى المنتجة في المجتمع، أو بالقوى السياسية التي فرضت نظامها السياسي الاقتصادي الاجتماعي، وإيديولوجيتها في تلك الفترة التاريخية.
في حين أن الفلسفة العربية الإسلامية ناتجةٌ في معظمهاعن رعايةٍ سياسيةٍ للسلطات في تلك الفترة لتياراتٍ فكريةٍ عملت على إضفاء طابع عقلاني تحديثي في حينه على إيديولوجيتها الغيبية ومزاوجتها مع الضرورات الموضوعية المتصلة بالقضايا والحاجات في مجتمع بلغ فيه التطور العلمي والاجتماعي حداً لا يمكن تجاهله. ومواجَهَةً منها لكل من:
علم الكلام المعتزلي الذي مثَّل تياراً فكرياً انتهج العقل بهدف شق طريق مستقل بعيداً عن إيديولوجية السلطة القائمة، ورفضاً للواقع الاجتماعي المفروض من قبلها. ونقضُ المعتزلة للجبرية، ورفعها مبدأ الاختيار، يقابل رفض الاستبداد وإعلاء الحرية.
الصوفية التي يحصرها منهج الفكر البرجوازي في كونها نظرية (للسعادة والاتصال) منطلقة من أساس ذاتي يتعلق بالمتصوف، وعلى ذلك فإن حدود التصوف تقف عند حدود المتصوف الجسدية، هي بناءً على ذلك ظاهرة فردية قابلة للعدوى الفردية وتشكيل جماعة فردية.. إلخ. وهو ما يسقط عن الصوفية جوهرها كظاهرة اجتماعية ذات بعد سياسي عملت على بناء إيديولوجيتها المستقلة والمعارِضة لإيديولوجية السلطة الحاكمة.
على ذلك، لا يمكن وضع علم الكلام المعتزلي والصوفية تحت مظلة الفلسفة الإسلامية، كما لا يمكن وسم الفلسفة في تراثنا بطابعها الإسلامي الديني المجرد. غير أن الخلاصة الأهم هي: أنه لا يمكن تفريغ أسس التراث العربي الإسلامي من مضامينها الاجتماعية المتصلة بجذورها وعلاقتها بالقوى المنتجة في المجتمع، واقتلاعها منها، والذهاب بها إلى الطرائقية العدمية كما تفعل بها البرجوزاية اليوم.
ـ2ـ
يمكن التمييز بين أسلوبين يتبعما السلفيون المعاصرون مع ثبات المنهج المثالي في البحث في التراث:
المتشدد: الذي ينطلق من فكرة عدم قبول الثقافة العربية الإسلامية للثقافات الأخرى، وهو ما أدى إلى ازدهارها وسيادتها. ورفض المسلمين (جميعاً) لمنجزات الحضارات السابقة والمحيطة بدعوى التفوق الحضاري! غير أن واقع الحال التاريخي يناقض هذا المبدأ، من حيث إن الرفض أو القبول للثقافات الأخرى لم يكن يوماً عامّاً، وإنما خاصٌاً بكل فريق من الفرق السياسية المتصارعة في كل فترة تاريخية، وهو ينطلق من مواقف إيديولوجية لهذه الفرق تتوافق أو تتعارض مع منجزات تلك الثقافات ومنجزات الحضارات. أضف إلى أن المسلمين تقبلوا بالفعل الثقافات الأخرى منذ باشروا بإنشاء دولتهم في العصور الإسلامية الأولى مع حكم الأمويين.
إن رفض أو قبول ثقافة لثقافة أخرى ليس (علاقة ميكانيكية، وإنما ديالكتيكية) محكومة بالواقع الموضوعي، وتقارب الثقافات أو تباعدها، وتشابه بناها الاجتماعية وقابليتها للتفاعل الاجتماعي.. إلخ، وهي (موضوعية ليست ذاتية، معقدة وليست بسيطة).
الأقل تشدداً: يعمل فيه السلفيون على حل الإشكال العالق بين الدِّين والفلسفة حلاً توفيقياً آخر! ينطلق من كون جميع الأديان والفلسفات تبدأ من وحدانية الحقيقة المطلقة وتنتهي بها. وبالتالي، فإن الإشكالات إجرائية بسيطة تفترض تطابق المدارس الدينية والفلسفية جميعاً منذ تشكل التراث العربي الإسلامي وانتهاءً بيومنا هذا.
إن شكل التوفيق هذا هو (إخضاع)، إذ أن إحدى المسائل التي يعمل السلفيون على إدراجها ضمن توفيقاتهم هي (موضوعة التأويل)، في عدم إدراكهم أنها لا تنحصر في وجهات النظر إلى النصوص، وإنما في تعارضها مع النصوص إياها. ويختلف هذا التعارض تبعاً للمبادئ والإيديولوجيات في كل فرقة ومذهب.
ـ3ـ
إن التيارات الفكرية المعاصرة السائدة اليوم برجوزايةً كانت أم سلفية، الباحثة في التراث العربي الإسلامي، عاجزةٌ عن إدراك أن تشكيل أسس تراثنا لم يقررها الدِّين رغم أهميته، وإنما شكل العلاقات الاجتماعية السائد في فترة تشكيل التراث، وأن الاضطهاد الذي مورس ضد التيارات الفكرية من معتزلة وصوفية وغيرها من فرق ومذاهب أخرى، لم يكن اضطهاداً دينياً موجهاً من المجتمع ضد الفكر، أو أنه جاء استجابةً من السلطات لرغبات اجتماعية، كما يَفترض ويعمم أتباع الفكر البرجوازي السائد. بل سياسي محكوم بضرورات سيادة الطبقة الحاكمة، بما يعنيه ذلك من ضرورة فرض سيادة إيديولوجيتها على المجتمعات، ومنع أي تيار معرفي من اتخاذ طريق مستقل في تشكيل إيديولوجيته التي من المحتمل أن تتلاقى مع تطلعات الناس والعامة

معلومات إضافية

العدد رقم:
916