التراث بين تغريبَين
سلاف محمد صالح سلاف محمد صالح

التراث بين تغريبَين

ثمة من يُسوِّق اليوم للنظر إلى الانتماء إلى التراث- تراث شعوب المنطقة- وفق نظرتين، الأولى: مشككة به وبقدرة صانعيه على الفعل الحضاري والإنجاز الحضاري المنتمي إلى الحضارة الأممية ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. والثانية: متعصبة له وتجد فيه حلاً لمشاكلها القائمة اليوم.. وتمثل هاتان النظريتان اغتراباً ليس للأجيال الحاضرة عن تراثها وحسب، وإنما اغتراباً للتراث ذاته عن الحاضر.

وفي الظروف التاريخية التي تعصف بشعوب المنطقة اليوم، فإن الحكم على أية وجهة نظر عامة- ثقافية خاصة- أنها ثورية ينبغي أن ينطلق من أسس تلاحم العداء لمنظومة النهب العالمي- وما يؤديه هذا العداء من دورٍ في نمو وعي طبقي يربط البعد الوطني للنضال ببعده الاجتماعي- بالمحتوى الثوري القائم على ضرورة الربط بالعناصر الثورية والديمقراطية الكائنة في التراث من منطلق الموقف ذاته من التراث.
نخوض في مقالنا اليوم في وجهات النظر الشائعة حول تراث المنطقة اليوم:
-1-
إن مسألة النظر إلى التراث متعددة بتعدد النظر إلى الحاضر ذاته. فالحاضر يختلف في وجهة النظر المشكلة عنه حسب موقع كل طبقة في الهرم الاجتماعي وكل فئة من الطبقة. فهذا التعدد في أساليب البحث ليس ذاتياً فردياً وإنما إيديولوجياً طبقياً قد لا يكون له حضوره المباشر وإنما (المستتر في القاعدة الفكرية التي ينطلق منها الشكل المعين لمعرفة التراث). وللبعض يشكل التراث خشبة الخلاص تجاه حاضر تتزعزع سيادته فيه. والبعض الآخر يقطع معه للحاق بركب الليبرالية. أما الثوريون من موقعهم الطبقي فهذا البحث هو علاقة بالمستقبل من حيث الوحدة التاريخية بين الماضي التراثي والحاضر اليوم المتحول في مجرى التاريخ.
إن طرق البحث المتعددة في التراث وفق الإيديولوجيات البرجوزاية السائدة المعتمدة في معظمها على قرون زمنية أو تواريخ لأسر مالكة ونشوء مذاهب فكرية وزوالها المبهم.. إلخ في تجاهل للأساس المادي التاريخي المؤثِّر في مراحل التراث المختلفة، تلاقت في النظر إلى تراث المنطقة من وجهة نظر سكونية لا تاريخية، وهي تخرج في معظمها بإحدى النتائج التالية:
1- التراث العربي الإسلامي ليس إنتاج القوى الاجتماعية المنتمية إلى المنطقة، وهو مجرد نقل من حضارات سابقة له إلى حضارات لاحقة في عصور النهضة الأوروبية. وهذه الخلاصة هي إحدى منجزات الفوقية والمركزية الغربية التي تتجاهل أن التراث العربي الإسلامي شأنه شأن أي تراث إنساني في العالم ظل على صلة بمحيطه الحضاري، وأن الظروف الداخلية لتشكّلهِ لم تمنع الظروف الخارجية من التأثير فيه، والتي توقف تأثيرها على التقارب بين ظروف الحياة الاجتماعية والفكرية والظروف نفسها بين الحضارات تلك. وتجد هذه الدعوة مروجيها في الطبقات السائدة في المنطقة ومنظريها، وأحياناً إعلامها بشكل مبطَّن مع اتجاه منظومات المنطقة إلى الليبرالية، وما تتطلبه من قطعٍ مع تراث شعوب المنطقة.
2- عزل تراث المنطقة السابق تاريخياً على التراث العربي الإسلامي، ومحاولة القفز عنه وتناوله وفق وجهة نظر شوفينية، وهو ما يتلاقى مع أهداف قوى الليبرالية المتنفِّذة أعلاه. وجدت هذه الدعوات تربتها بعد هزيمة حزيران 1967 والحرب الأهلية اللبنانية وفي مصر، وتجد أصداءها اليوم في الظروف الراهنة التي تعصف بالمنطقة.
3- (وَهْم تلازم عصرية المعرفة وعصرنة التراث)، وهو ما تخرج به التيارات المتشددة المنطلقة من هذه النظرة نحو الماضي في محاولة للاستنجاد بماضٍ ولَّت ظروفه التاريخية لإنكار أن ظروف سيادة طبقية (دولية- محلية) لحفنة قليلة تتخلخل وتنهار تحت ضربات مطرقة الحاضر ذاته الناشئ أصلاً عن جذوره التاريخية المنتجة للتراث، والتي تشكل الخصوصية التاريخية لكل أمة من الأمم في وحدتها الأممية الكاملة. إن استدعاء الأشكال السابقة لحل المشكلات المعاصرة، هو محاولة لمعالجة مشاكل ناتجة عن عصر تختلف ظروفه وأدواته المعرفية بأدوات حُلَّت فيها مشاكل عصرٍ آخر نشأت عن ظروف تاريخية وفق أنماط اجتماعية إنتاجية مغايرة تماماً. وهو شكل من أشكال معالجة الظروف والمشاكل الحياتية بطابع غيبي- قدَري.
ويمكن أن نخلص، أن النتائج أعلاه تلتقي في الهدف باقتلاع المجتمع العربي وفكره من موقعهما وواقعهما في الحاضر. فإذا كانت النيجتان الأولَيان تقتلعان المجتمع من أمسه وتتركانه في مهب الريح، فإن الأخيرة تقتلعه من يومه وترميه في أمسه. وهو ما يجعل أجيال اليوم أمام أحد خيارين: إما اقتلاع من الأصالة، أو اقتلاع من المعاصرة! إما (تغريب لشعوب المنطقة عن تاريخها، أو تغريب لحاضر الشعوب عن عصرها). وكلا الأمرين اغتراب عن الحاضر من حيث إن الحاضر وحدة قائمة مع الماضي والمستقبل.
-2-
إن منهجية البحث العلمي في التراث من حيث إدراك العلاقة العضوية بين الإنتاج الفكري- التراثي والظروف التاريخية التي أُنجِز فيها هذا الإنتاج، وأن (السمات العامة لصورة التراث هي سمات الفكر في علاقاته الموضوعية غير المباشرة مع حركة هذا المجتمع بعينه، بمشكلاته وخصائصه التاريخية، بتناقضاته وبالأشكال الفكرية المعبرة بمستويات متفاوتة من الاستقلالية النسبية عن أنواع الصراع الاجتماعي والإيديولوجي التي كانت تحدثها هذه التناقضات. وفي هذه الصورة نرى حضور القوى البشرية الفاعلة الصانعة للتاريخ.. وفي الوقت نفسه نرى في هذه الصورة الواقعية للتراث ملامح من صورة الحاضر كذلك- حسين مروة)، أو عدم تقصي هذه العلاقة ووضعها في إطار هامشي محيَّد، هو المحدِّد الأساس لمنهجية التعاطي برمته مع التراث إيجابياً أم سلبياً.. وهو محدِّد كذلك لطبيعة القوى المتبنيِّة لإحدى المنهجيتين بين ثورية أو (محافِظة).
إن وضع التراث في تاريخيته من حيث علاقته بالبنى الاجتماعية المنتجة له يتيح معرفة القوى الاجتماعية المتصارعة في حينه وموقع كل منها في الهرم الاجتماعي وإيديولوجية كل قوة من هذه القوى، بما يحدد الاتجاهات الثورية والمحافِظة وغير الثورية في العصر الإسلامي، وبما يعطي الاتجاهات الثورية في مجتمعنا اليوم صبغتها الأصيلة من حيث تكشّف عناصر الوحدة بين هذه اليوم وتلك البارحة، وبما ينفي ويدفع بالضغط الغربي الخارجي وامتداداته في الداخل باتجاه ضرورات القطع التاريخي مع تراثنا بدعوى التطور والتقدم الثوري (الملوّن).

معلومات إضافية

العدد رقم:
906
آخر تعديل على الأربعاء, 27 آذار/مارس 2019 14:30