حين يثور الفهد وحده.. يُشنق!
بينما كان وعي «أبو علي شاهين» في حالة ضمور كبذرة لم يسقط عليها المطر بعد، اتخذ قراراً بالقفز فوق الزمن، «آملاً أن يكون الإسراء من سماءٍ طَهورٍ إلى أرضٍ ملوثة»، فوثب نحو المستقبل الغامض على صهوة من دم، محاولاً التطهر، و«مندفعاً كأعمى فوق شعرة ممسوسة تصل بين جبل الموت الفردي، وجبل المقهورين على الأرض».
«تمرّد فردي»!
«أبو علي شاهين» هذا كان قد انتفض لوحده مرةً ضد الزعيم الإقطاعي (الأغا) في منطقة تدعى «سيغاتا» في ريف مصياف، وكان يعمل عنده كـ «مُرابِع»، لا يأخذ إلا ربع ما تنتجه الأرض، وهذا الربع ليس كله له، بل عليه أن يشتري منه البذور لموسم الأرض الجديد، وكانت نهايته أن شُنق في ساحة تدعى «ساحة الشيخ ضاهر»، كما تقول أحداث رواية «الفهد» التي كانت توثيقاً لهذه الحادثة على يد الكاتب والروائي السوري، حيدر حيدر، نقلها لنا بأسلوبه الشيق والممتع، بعد تحرٍّ قام به في المنطقة، سَمِع من خلاله تفاصيل الحدث من الناس هناك...
«حكاية نصر وفقر»!
تدور أحداث الرواية في الفترة التي تلت استقلال سورية عن الاستعمار الفرنسي، الاستقلال الذي حققه الثوار بدمائهم، و«الذين لم يجنوا منه غير المخافر، والجوع، والفقر، والصلوات السرية للمطر، والطرقات التي تشقها أقدام دوابهم». و«سيغاتا» والقرى المجاورة لها، هي مكان تفاصيل الرواية، حيث كانت «واحدة من القرى المرمية بإهمال خلف شريط الجبال القاسية، يُعمّدها الضباب في الأصباح الندية، وفوق ذراها ينهد الثلج في الشتاءات»، ورعاتها وحطّابوها يغنون للريح والمواسم أناشيد شعبية مفعمة بالحب والحرية والفروسية القديمة... «ولو بحثت عن شاهدة للثوار الذين قتلوا زمن الحرب لأشارت لك الصخور، ولغنّت لك الأشجار بنواح قديم عن الذين ماتوا كي لا تسقط هذه القرى مرةَ أخرى تحت أقدام غزاة جُدد»...
وإن كان الثوار يقتلون وتسيح دماؤهم فوق الصخور، كان الوارثون الأوصياء، يسجلون في دوائر الدولة الأراضي والعقارات ويقتسمون القرى، ما جعل جماهير المقاتلين الفقراء يتحولون إلى أُجراء وخدم لهؤلاء الذين استثمروا النصر وسرقوه في الغفلة...
«أحداث وتفاصيل»..
ذات يوم، في عامٍ قليل المطر، لم تغلّ فيه الأرض، أخذ الرجل (أبو علي شاهين) بارودته عند الغروب، وأسرج بغلته، وامتطى الدرب إلى الطاحونة ليطحن ما تبقى لديهم من الشعير، وبعد أن عاد إلى البيت رأى زوجه حزينة، فسألها عن سبب حزنها، وأجابته بأن الأغا أرسل حارسه، ويريد حصته من محصول السنة. اكفهرّ وجهه، وغضب، وراحت تلتقي الخيوط الحارة المتصاعدة من أعماقه مع خيوط بخار «الزوفا» الهلامية الساخنة التي قدمتها له زوجه لكي يهدأ.
وفي الصباح أطلّ وجه الحارس من جديد بكوفيته البيضاء، وعصاه تتقدمه: «هيا يا أبا علي، هاتِ حصة الأغا من الغلال»...
«ولكنك تعلم أن هذا العام كان قاسياً، والأرض لم تنتج، والبارحة طحنّا الشعير بدل القمح لنأكل»... اسمع يا أبا علي: «إذا لم تدفع، ستسحب منك الأرض»... اسمع أنت: «وإذا لم تعطِ الأرض، ما ذنب الفلاح؟!»... يرد الحارس: «أنتم تسرقون الأرض، وتتذرعون بالمطر والمرض، أنتم كلاب، وإن لم تُدسْ رقابكم لن تصبحوا بشراً.. سوف نرى»، ومشى...
ناداه أبو علي: «ولدتك أمك على سكة فرنسا، قد نكون فقراء، ولكننا لسنا كلاباً يا ابن العاهرة».. ثم حاذاه، وأخذه بقسوة قبضتيه، ورفعه نحو الأعلى، وطرحه أرضاً...
وعند ظهيرة اليوم نفسه، جاء الحارس، والأغا والدرك، واعتقلوا شاهين... وضُرِب بكعوب البنادق، والسياط، وأحذية الجند، ثم أوثق وصلبت يداه، وضُرب حتى بلّته الدماء...
ولمّا عاد إلى البيت، لم تكن عيناه مليئة بالدموع، «بل بطيوف تمرّد إنسان تخطى لحظة التاريخ، وسكينة الزمن».. أخذ بندقيته، وودّع أولاده، واستقبل الريح والمطر... وسُمع في ليل اليوم نفسه صوت رصاص في القرية، وسحبت الشرطة قتيلين، وكان ذلك بداية غمّة. وميضاً لتاريخ فجّ وغامض حرّكه فلاحٌ وحيد مُهان..
وتحول شاهين بعدها إلى لصٍ خارج عن القانون، وفوق التلال القريبة أقام مملكته الجديدة، بوسادةٍ من أرض رطبة وعشب، وجدران من الأشجار والصخور، وسقف من سماء عارية.
وتلا ذلك بأيام قيام شاهين مع بعض أنفار «الفرارية» بالهجوم على مزرعة «الأغا» وقتل الحرّاس جميعهم، ومصادرة سلاحهم، وذخيرتهم، والقمح والأطعمة، وحرقوا المزرعة، ووزعوا على الفقراء ما جنوه، كما داهم شاهين وحده سريّة من الشرطة، ولم يستطيعوا قتله أو الإمساك به، وبعد ذلك تحوّل شاهين إلى أسطورة كسرت سلسة الخوف من الإقطاع..
وفي أعقاب المعركة، أحب الجياع شاهين، وكانوا يدعون له بالنجاة فقط، وكانت زوجه (تخطف رجلها) في الليل خلسة إليه، لتعطيه ما توفر من الأطعمة ومخازن الرصاص حتى قبض عليها الدرك في- إحدى الليالي- الذين تتبعوا فيها خطاها، فاقتادوها أسيرة مع أبنائها، صادروا منها الأرض والبيت، وصادروا من بيوت جميع فلاحي القرية الأسلحة التي كانت أداة للصيد فقط بعد الاستقلال، وما تبقىّ لديهم أيضاً من الجبن والسمنِ والخبز والقمح... إلخ.
تحولت القرية إلى جحيم، وكان الدرك يجولون فيها ليلاً ونهاراً، ثم ينامون في بيوت الفلاحين، وعلى أسرّتهم، ما جعل معظم سكان القرية يهاجرون إلى القرى المجاورة التي لم تنجُ من السابق أيضاً..
وتحول شاهين إلى صديق للغابة، وظلّ مشرّداً هكذا حتى شُنِق، تخيّلوا.. لقد شنق شاهين دون أن يعرف الكثيرون أنه شنق من أجل الحرية والكرامة والأرض!
«عِبرة»...
ما سبق كان سرداً سريعاً مكثفاً لتفاصيل الرواية، وذلك بهدف وضع القارئ بصورة الرواية. لكن الأهم من صورة الرواية عبرتها، والتي يمكن تلخيصها بأن البطولات الفردية المتكررة مراراً عبر التاريخ البشري، لا تثمر، ولا تغني من جوع، وتذهب أدراج الرياح مع أبطالها دون أيةِ جدوى..
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 906