«المثقف الموسوعي»..ممكن اليوم!

«المثقف الموسوعي»..ممكن اليوم!

هل يمكننا الحديث اليوم عن أشخاص موسوعيين يطورون قضايا الفكر والعلم والثقافة؟ في ظل الانهيار الشامل للفردانية الليبرالية الرأسمالية وصعود العمل الجماعي محل العمل الفردي؟

تعالوا نتعرف كيف تعمل الموسوعية في الظروف الجديدة للقرن الواحد والعشرين؟ والتي تشكل نموذجاً لانهيار الفردانية الليبرالية الجديدة.
موسوعية العصرين
العبودي والإقطاعي
ظهرت الفلسفة في الشرق قبل حوالي 5000 سنة، وتطورت العلوم الأولى في وادي النيل ووادي الرافدين والهند والصين واليونان والبلاد العربية وغيرها على مدى آلاف من السنين المكونة للعصرين العبودي والاقطاعي.
تطلب تطور العلوم في ذلك الزمن أشخاصاً موسوعيين ليستطيعوا أداء مهمة تطوير العلوم والفلسفة، وهكذا كان أرسطو «384 ق.م-322 ق.م» فيلسوفاً وفيزيائياً وعالم أحياء ورجل دولة ومسرحياً وموسيقياً وعالم أخلاق، وكان أبو حيان البيروني «973-1048» فيلسوفاً وجغرافياً وفلكياً وجيولوجياً وصيدلياً ومؤرخاً ورحالة وجيولوجياً وعالم رياضيات ومترجماً لثقافة الهند، وكان ابن سينا «980-1037» فيلسوفاً وطبيباً وعالم رياضيات وعالم نفس وموسيقياً وعالم طبيعة. وإذا تفحصنا السيرة الذاتية لعلماء ذلك الزمن، نراهم جميعاً يتصفون بالموسوعية في العلم والفكر والعمل، وهو ما قادهم إلى اكتشافات علمية قيمة.
القالب الموسوعي في التحرير
ظهر القالب الموسوعي في التحرير عشية تفسخ العلاقات الاقطاعية وحلول العلاقات الرأسمالية محلها بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، حيث تطورت العلوم ومعها الفلسفة إلى درجة شاع فيها استخدام الموسوعة في تأليف الكتب، وظهرت الموسوعات العامة والمتخصصة أو دوائر المعارف الأوروبية، كما ظهر علماء موسوعيون استطاعوا أداء مهمة التطوير العاصف للعلوم مثل لومونوسوف وغيره.
اعتمدت الموسوعات العامة على عدد من الكتاب والمحررين، كل يكتب في مجال تخصصه. أما الموسوعات المتخصصة فكتبها علماء موسوعيون، أي: أن الجماعية في العمل الموسوعي بدأت تشق طريقها في التاريخ البشري منذ ذلك الوقت.
الموسوعية ونشوء الفلسفة الماركسية
حدث تلخيص موسوعي كبير للعلوم السابقة على يد سان سيمون «لم ينجزها» وهيغل، وكان تقسيم هيغل الأولي للعلوم إلى ميكانيكا وكيمياء وأورغانيكا «علم العضويات» وافياً بالنسبة إلى ذلك العصر في القرن التاسع عشر.
في الثلاثين من أيار عام 1873 توصل فريدريك إنجلس إلى اكتشاف هام، يزيل العوائق التي كانت تعترض طريقه، إذ وجد الأداة التي تساعد على ردم الهوة التي كانت لا تزال قائمة بين الطبيعة الجامدة والحية: فكرة التطور العامة. فقد رسمت العلوم الطبيعية «الفلك والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والجيولوجيا» لوحة شاملة لتطور الطبيعة، وبقيت ثغرة كبيرة لا بد من سدها، وجاء اكتشاف إنجلز ليملاً هذا الفراغ عندما بدأ بصياغة مفهوم «شكل الحركة»، الذي كان ينطوي على أشكال الطاقة «الميكانيكية والفيزيائية والكيميائية» وعلى العملية البيولوجية.
وهكذا ظهر مؤلفه الموسوعي «ديالكتيك الطبيعة» الذي استمر العمل به 20 عاماً، ولكنه لم يستطع إنهاء المؤلف بسبب انشغاله بتحرير مؤلف كارل ماركس الموسوعي «رأس المال» وتوفي عام 1895 ولم يكمل مهمته. وكان نشوء الفلسفة الماركسية في القرن التاسع عشر على يدي ماركس وأنجلس ملخصاً موسوعياً لتطور الفلسفة والعلوم والأفكار التقدمية خلال 2000 عام من تاريخ البشرية.
الموسوعية في الاتحاد السوفييتي
اختلفت الموسوعية في الفلسفة والعلم منذ بداية القرن العشرين عمّا سبقتها، وبدأ العمل الجماعي يأخذ دوره بشكل أكبر.
تطلب تطوير الماركسية على يد لينين وظهور الماركسية اللينينية أن يؤدي لينين أيضاً الدور الموسوعي في الفلسفة والعلوم مثل ماركس وأنجلس، وتشهد مكتبة ستالين المكونة من 30 ألف كتاب ومؤلفاته المكونة من 32 مجلداً على تأثير الجانب الموسوعي في الدور الذي لعبه في قيادة الاتحاد السوفييتي وبناء الاشتراكية، والانتصار في الحرب، وتطويره لبعض جوانب الفلسفة الماركسية.
بعد تطور المؤسسات الفكرية والعلمية السوفييتية وما تبعها من تطور هائل في العلوم، بدأ ظهور الأعمال الجماعية، مثل: موجز تاريخ الفلسفة، وعرض اقتصادي تاريخي، والموسوعة السوفييتية، ومختلف الكتب العلمية والفكرية التي شارك في تأليفها وتحريرها العشرات، والتي كانت إعلاناً لرفع العمل الجماعي إلى درجة الموسوعية، وتراجع إمكانية العمل الفردي في هذا المجال، وهذه نقطة تسجل للاشتراكية.
الموسوعية في القرن الواحد والعشرين
قطع أفول الفردانية وصعود العمل الجماعي في الموسوعية أشواطاً طويلة خلال 100 عام، وإن كانت المؤسسات الإعلامية والعلمية والفكرية الغربية ما زالت تروج للفردانية في العمل بسبب هيمنتها الأحادية منذ 1991.
ولكن هذا لم يعنِ أبداً صعوداً جديداً للفردانية بقدر ما كان نتيجة للهيمنة على النشر العالمي مدة عقدين، فقد تشعبت العلوم وتسارعت الاكتشافات لدرجة لم يعد ممكناً الحديث عن فرد واحد أو أفراد. وإذا قلنا إن الموسوعية العامة موجودة اليوم فهي نتاج عمل البشرية كلها. أما المؤلفات الموسوعية المتخصصة مثل «تاريخ الفلسفة» الصادر في موسكو عام 2008، فهو نتاج عمل مجموعات كبيرة من المؤلفين والمحررين في مجالات الفيزياء والكيمياء والأحياء والطب والجيولوجيا وعلوم الفضاء والتكنولوجيا الحديثة وغير ذلك، وبلغ حجم هذا العمل عدة مجلدات، وفهرسة أكثر من 50 صفح
كلمة أخيرة
تقع مهمة تطوير العلوم وقضايا الفكر والفلسفة على عاتق المجموعات اليوم، فالعمل الجماعي للمؤسسات ومراكز الأبحاث والجامعات وغيرها يستطيع تنفيذ تلك المهمة الكبيرة، ويتحدد دور الفرد في إطار تلك المجموعات.
ونستطيع ذكر أمثلة للدور الموسوعي الذي لعبته جريدة نضال الشعب 1992-2000 وجريدة قاسيون 2001-2018، إذ يقدم مجموع المواد المنشورة تاريخ نضال الشعب السوري حتى اليوم، ولعبت قاسيون دوراً كأول صحيفة شيوعية عربية تؤسس موقعاً إلكترونياً 2001 في نشر المؤلفات الماركسية إلكترونياً، والتي ما زالت متداولة في المكتبات الإلكترونية المختلفة حتى اليوم. هذا على سبيل المثال لا الحصر، في عمل جماعي للدور الموسوعي الذي يمتد من الماضي ويتجه نحو إلى المستقبل.