«النقد» التدميري خارج الزمان والمكان
التيار المعادي ضمنياً أو مباشرةً للتجارب الاشتراكية المهمة يعتمد مختلف الوسائل لتشويهها، ومنها: استسهال تناول التاريخ وكأنه كان طريقاً معبّداً بالورود، ويرى كل المشكلة أنه من كان وقتها كان قاصراً عن الرؤية. وخصوصاً عندما يصير هكذا تحليل أساساً لبحث تراجع الفكر الثوري في المرحلة الماضية، وبالتالي رسم أفق له. أساسها ينطلق من معكسر الفكر النقيض البورجوازي من أجل تدمير الماركسية ويتأثر فيها من هو في معسكر الفكر الماركسي نفسه عندما يحاول ممارسة النقد الذاتي.
يعتمد التيار المعادي ضمنياً أو مباشرةً للتجارب الاشتراكية المهمة مختلف الوسائل لتشويهها، ومنها: استسهال تناول التاريخ وكأنه كان طريقاً معبّداً بالورود، ويحاول أن يصور المشكلة، على أنها قصور في الرؤية لدى المعاصرين. ويمتد هكذا تحليل ليتحول إلى أساس لبحث تراجع الفكر الثوري في المرحلة الماضية، وبالتالي رسم أفق له.
وينطلق البعض من الماركسيون، معتمدين على أدبيات التيار المعادي، ومنطق الاستسهال التاريخي ذاته، ليقوموا بممارسة (النقد الذاتي)!
لتنحصر في المستوى النظري لتحديد أسس الأزمة في مرحلة تراجع الحركة الثورية، وتقييم التجارب السابقة. في تجاهلٍ فاضحٍ للظرف الملموس حينها.
لا بد للساعين جدياً وثورياً، للنقد الذاتي، أن يكونوا أكثر انفتاحاً على المفردات التفصيلية للوقائع السابقة، ليصلوا لقراءة الواقع الذي تتحدد الممارسة السياسية للفكر الثوري، على أساسه. وليقرأوا تجارب الأحزاب التي عاشت الوقائع، ومارست الممارسة. حتى يكون النقاش ضمن حدود الزمان والمكان، وليس خارجه، حيث فيهما يتم إنقاذ الفكر كما الممارسة من مثاليته أو إرادويته.
أمّا الاعتماد على «المبسّطات» التاريخية، والتعميمات المنقولة عبر البروباغندا، فيسهّل للفكر إطلاق أحكامه التي تؤسس ربما للعديد من ملامح التخلّي والارتداد ضد الماركسية، ولا تعطي التجارب الاشتراكية السابقة حق قدرها، وتمنع الاستفادة من سلبها وإيجابها.
«راحة» الفكر الناقد
هذا الاستسهال يحصل بوضوح عندما يتم تقديم النقد ليس فقط بمعزل عن ظروف محددة لتلك المرحلة التي خاضت فيها المجتمعات ملاحم التغيير، بل أيضاً بـ «دعمٍ» من ظروف الفكر في الزمن الخاص بمُطلِق النقد. ظروف كأن تبحث التجربة البلشفية، مروراً بمراحل: روسيا القيصرية، ومن ثم في زمن حكم الحكومة المؤقتة «البورجوازية» مع كل ما يعنيه ذلك من حكم أمني وحرب مدمرة وجوع، وتحديداً كونها كانت مرحلة لا زال فيها الفكر الماركسي يستوطن الواقع، ويبني لنفسه أسساً واضحة لم تكن منتجة بعد.
إضافة إلى أن التجارب الماركسية وإن وَجَدت في القوى المقهورة طاقتها المادية، إلا أنها قامت على كاهل أفراد محدودين معروفين من لحمٍ ودمٍ، حيث لا حكومات أجنبية أو جمعيات «غير حكومية» لتدعمهم مادياً أو تقنياً، بل أنتجوا كل مستويات صراعهم الإعلامية والمادية والتنظيمية ضمن شروط وظروف تلك المرحلة التي أقل ما يمكن القول حولها: أنها كانت أوقاتاً صعبة.
إهمال الظرف الصعب
الظروف تلك تفرض على الفكر الناقد في زمن لاحق، خصوصاً إذا كان هذا الزمن أكثر «سهولة» من الذي سبقه، أن يتواضع أمام الصعوبات الكبيرة التي عمل فيها الثوريون الأوائل، كالذين كانوا مثلاً على اليخت «غرانما» الذي استقلّه فيدل كاسترو ورفاقه الذين لم يتعدّوا التسعين على متنه، مبحرين من المكسيك إلى كوبا، أو ضمن التجربة الصينية التي كانت تخوض معركة مقاومة ضد اليابانيين ومطامع الاستعمار العالمي في بلد زراعي متخلف، حيث قام ماو زيدونغ لاحقاً بمسيره الطويل من جنوب الصين إلى شمالها ليبني جيشه «على الطريق» مارّاً في جبال الصين عابراً أنهارها، ليسقط على الطريق آلاف الضحايا دون قتال بل نتيجة البرد والجوع والمرض. وصولاً إلى الثوريين في منافي سيبيريا والخارج، حيث في مرحلة ما قبل الثورة تخفّى لينين ورفاقه في الشقق السرية، وحيث أُعدم البلاشفة في الطرقات والمعتقلات، فكان على لينين أن يتخفى في غرفة مهجورة في ضواحي بتروغراد بعد أن صدر القرار باعتقاله، ذلك القرار الذي وافق عليه عدة من «رفاقه» وقتها والذين ارتدّوا لاحقاً ضد البلاشفة ولينين.
من التكبّر والإجحاف اليوم أن يجلس ناقد على أريكة دافئة، أو في غرفة مضيئة، أو في مكتب آمن، وأن يفكر في تلك التجارب على ضوء ظروف غرفته أو مكتبه، بلا اعتبار مثلاً لا لـ «غرانما» كاسترو، أو مسير ماو، أو الموقد الذي كانت تعيشه روسيا.
استسهال يؤسس للتدمير
هذا الاستسهال أنتج من جهة المعسكر النقيض مواقف تدميرية على اعتبار أنّ من قادوا هذه التجارب لم ينجحوا حسب ما يقولون، وإما هم يمرّون على ما أُنتج مرور الكرام ويتجاهلونه، ويختزلون النقاش بـ«قلة دراية» بمن قام بهذه التجارب. هكذا وبكل بساطة، وكأن الواقع وعملية التغيير طريقٌ معبدٌ وسهلٌ وما على الإنسان إلّا أن يختار من بين الطرق أفضلها! وهو الاستسهال نفسه، مما يجعل من ينطلق من موقع الماركسية أن يقلل من شأن أو يستخف أو يعارض تلك التجارب، على أساس أنها كانت يمكن أن تكون غير ما كانت عليه لناحية الوقوع في أخطاءٍ معينة. ولكن أليست مقولة لينين: «الوحيد الذي لا يخطئ هو من لا يعمل» ردّاً على هؤلاء، وكيف إذا كان العمل ثورة اجتماعية!
طبعاً، إن التجارب التي مرت تحمل الكثير من الدروس والخلاصات، ولكن من يطلق هذه الأحكام الاختزالية للمفارقة ليس فقط يهُمل الدروس تلك، بل إنه لا يملك حتى التأثير في واقعه الضيق، على عكس من يتهمهم بالعبث التاريخي، حيث كل الأرقام تقول: إن التاريخ بعد ثوراتهم ليس كما التاريخ قبلها.
هذا التسطيح والتسخيف والتبسيط هو من أجل خلق التشكيك لا في هذه التجارب نفسها فقط، بل في ما يمكن أن يقوم من تجارب، وكلّها تحكمها فكرة ضمنية وهمية تقول: «الثورة يجب أن تكون نقيّة، تجربة كاملة وإلّا فلا تكون». ولكن على حد تعبير مهدي عامل «كيف تكون الثورة نظيفة وهي تخرج من أحشاء الحاضر متسخة به تغتسل بوعدٍ أن الإنسان جميلٌ حرُّ!؟».