حوار مع الفنان سعد يكن التحرر وأزمة الإنسان الفلسطيني
يضع شخصياته في أمكنته المفضلة على طاولات المقاهي أوفي الملاهي الليلية، كتلاً بشرية تحتشد متراصة في اللوحات تعيش كل منها عزلتها الخاصة، في حالة من اللاتواصل. يقتلع عن الوجوه كل الأقنعة ويتركها عارية، هذه المرة جاء الفنان التشكيلي سعد يكن إلى دمشق ليقدم معرضاً يحكي على طريقته عن التحرر وأزمة الإنسان الفلسطيني، ويضعه أمام المشاهد العربي، التقته «قاسيون» وكان هذا الحوار :
* كثر الحديث عن أسلوبية «يكن» في هذا المعرض وقال البعض إنه لم يحدث هناك الكثير من التغيير في اللوحات المقدمة في هذا المعرض، فما هو رأيك بهذا القول؟
** أنا لا أعتقد هذا، فقد عملت على التجديد في عدد من النواحي، سواء من ناحية الموضوعات أو من ناحية التقنية المستخدمة، سواءً من ناحية اللون أو التشكيلات، الأعمال المعروضة تتضمن 19 عملاً، الفكرة الرئيسة من ورائها، رسم موضوع عن التحرر، لقد جاء التغيير بشكل رئيسي في تشكيل الإنسان الموجود في هذه اللوحة كما كان هناك تغيير حتماً في الألوان التي استخدمتها في لوحاتي الجديدة بالإضافة إلى مجموعة من الألوان التي كنت أستخدمها سابقاً فالموضوع الدرامي المقدم يحتمل ذلك.
إن التغيير في انفعالات الشخوص الموجودة في اللوحات جاء بشكل مختلف لأنني أصور هنا أناساً محبطين نفسياً ومتعاطفين جسدياً، والتراص الجسدي هذه المرة في هذه اللوحات المقدمة لا علاقة له بالشخصيات نفسها داخل اللوحة لأنه ليس هناك تعاطف بين شخوص اللوحة إنهم موجودون في بوتقة واحدة في حزمة واحدة، في مشكلة واحدة وهم في غنى عن التعاطف الشخصي بين بعضهم ، بينما تنعكس الدراما المأساوية التي يعيشونها من خلال موقفهم من المشاهد وبعدهم عنه وهذا ما أركز عليه في الفترة الأخيرة للتأكيد على الدراما النفسية والإنسانية التي تعيش فيها شخصيات اللوحة.
* الآن بعد 30 عاماً من عملك في الفن دون امتهان أي عمل آخر إلى أي مدى ترى أنك حققت مشروعك؟
** في الواقع لقد جاء اختياري لطريقي في الفن ولأسلوبي أمراً صعباً ولا يزال كذلك، لأن أعمالي لا ترتبط مباشرة بالجمالية التجارية أو الجمالية العامة كمفهوم عام ، كالأعمال التي تصور مناظر طبيعية بشكلها الجمالي المباشر أو نساء حالمات، ولا ترتبط بجماليات تقنية فقط، إن الموضوعات التي أختارها حربية، إن استطعت القول، موضوعات جدية، فيها الدراما والملحمية التي أخبرتك عنها قبل قليل، أعمالي تواجه المشاهد بشراسة، ونادراً ما تكون أعمالي لطيفة، ولكن بالرغم ذلك استطعت أن أصل بهذه الأعمال إلى ما أريد، بنسبة ما، وتقبل الكثيرون هذه الأعمال التي وصلت إلى صالات فنية وبيوتات حول العالم، هذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن داخل الإنسان بعض الجوانب الدرامية التي تجعل لديه توازناً نفسياً من نوع ما ويذكره ويشعره بالإسقاطات النفسية.
* ماهي خطوتك القادمة من خلال مشروعك الفني؟
** لا أفكر بالخطوة القادمة كثيراً فعندما بدأت بالتحضير لهذا العمل والذي نتج عنه 19 لوحة، بدأت بعمل واحد ثم أصبحوا اثنين ولم أكن أفكر كيف سأنتهي، عندما أعمل على موضوع محدد يكون بالنسبة لي كبحث فأحيط بالعمل من كل زواياه ولذا لا أعرف كم عملاً قد ينتج لدي، عندما عملت على مشروع ملحمة جلجامش نتج لدي 62 عملاً، وعندما عملت على مشروع نحو أيقونة حلبية حديثة كانت 32 عملاً، الطوفان والنساء 27 عملاً. لا يوجد لدي ثوابت أقوم بالبناء عليها كل تجربة تحمل كيفها وحجمها.
* بعد أن تم قبولك في كلية الفنون الجميلة في دمشق غادرتها بعد فترة ليست بطويلة لتعود إلى مدينة حلب، ما هي الأسباب التي دفعت بك إلى ترك الكلية؟
** عندما جئت إلى دمشق لأدخل إلى كلية الفنون، جاء ترتيبي الأول في فحص القبول، وبعد أن أنهيت فحص القبول كنت أوزع بطاقات دعوة لأساتذتي في الكلية لمعرضي الجديد وكنت قد أقمت قبلها ثلاثة معارض، فوجدت أنني بهذا سأتراجع كثيراً إلى الخلف، لأنقطع عما وصلت إليه وأعود إلى ألف بائيات الفن، بعد أن كنت قد قطعت في ذلك الوقت مرحلة في تفكيري، من خلال علاقتي مع لؤي كيالي، الذي كنا نرسم سوية في ذلك الوقت، عندما قدمت من حلب في عام 69 قال لي الياس زيات: يا سعد لن تستفيد من الكلية كثيراً فلا تضيع وقتك بالدراسة الآن. بالإضافة إلى مجموعة من الظروف غير المباشرة والتي ساهمت في تركي للكلية.
* هل تشعر بحنين إلى دمشق بعد عودتك إلى حلب؟
** بالطبع أشعر بهذا الحنين فأنا أحب الشام كثيراً، وأشعر خصوصاً بالحنين لحقبة السبعينات، عندما كانت دمشق في فترة ازدهار ثقافي وفني في عز ازدهارها وتطورها كمركز تنويري، لقد كانت دمشق مركزاً للنهضة الثقافية السورية.أنا أذكر تلك الأيام. فقد تركتها في ذروتها، الآن تغيرت الكثير من الأمور، لكن حنيني بقي.. حنيني إلى دمشق القديمة التي أعرفها وليس دمشق التي تراها الآن، الصراخ، الضجيج، التلوث، واللهاث وراء الحياة اليومية والروتينية .
* وهل أنت متأقلم في حياتك بحلب؟
** نمط الحياة في حلب بطيء نوعا ما لكنني استطعت التأقلم مع ذلك، لأنني أعيش هناك في عزلة من نوع خاص، وأنا مرتاح فيها، أقضي وقتي وحدي لكنني لست وحيداً، أعيش في هذه العزلة بملء إرادتي متفرغاً لأعمالي وفني، وليست لدي هناك حفلات كوكتيل في السفارات أو غيرها، وليس هناك أصدقاء يأتون ويذهبون إلى مرسمي يشغلون الوقت دائماً، فلا أستقبل أحداً إلاّ بموعد مسبق، ولا يوجد لدي في حلب أية مشاكل مع الآخرين. بينما لو كنت باقياً في دمشق لعانيت من مشاكل حقيقية.
* بدأت ظاهرة الأكاديمية تطغى على كل شيء حتى على الفنون فهل ترى في ذلك مصداقية ما؟
** لا أعتقد إنه يتوجب على موسيقار مهم أن يكون خريج كونسرفتوار؟ ولا أعتقد أن شاعراً عليه أن يكون خريج أدب عربي، وحاملاً لشهادة دكتوراه في الشعر، فأنا لا أعتقد أنه يتوجب على الشاعر حتى يكتب شعراً حديثاً عليه أن يكون حاملاً لشهادة في شعر طرفة بن العبد أو أبي نواس مثلاً. أما من يعمل ضمن الاختصاصات التقنية والعلمية فهو الذي بحاجة إلى هذه الشهادة، إنه على صلة بالأمور الأكثر تقنية، لكن الفنون تبقى خارج قوس لأنها لا تخضع لهذه المقولات فهل تعتقد أن أحداً يقول الآن الدكتور بيكاسو، أو الدكتور سلفادور دالي، أو الدكتور ميكل أنجلو. في الفنون لا توجد هذه الحدود في مفهوم التخصص بمستوى شهادة، فالفن لا علاقة له بهذه القصة لا من قريب ولا من بعيد.
* شاركت في مؤتمر ( تطلعات الثقافة والفنون لما بعد عام 2000 ) - العولمة والثقافة - فكيف يمكن للفن العربي برأيك أن يواجه هجمة العولمة؟
** لقد بدأت العولمة تشكل تياراً لابد منه، سواء كنا نريده أو لانريد، وهذا التيار لا بد أنه قادم، وربما كنا نعيشه وإذا أخذناه من ناحية نظرية فقط فهو أمر طبيعي في الأدب والفن أن تظهر مفاهيم وتختفي مفاهيم أخرى، الآن دخلت العولمة مثل المد على الكثير من نواحي الحياة، لكن باعتقادي إن الفن هو من الأشياء القليلة التي تستطيع الوقوف أمام هذا المد، أكثر بكثير من التكنولوجيا والصناعات العربية لأنه من وجهة نظري متطور أكثر من الصناعة والتقنية العربية، ونستطيع مواجهة هذا التيارات من خلال تطوير الفن بالتوازي مع تيارات العولمة الوافدة، من خلال العودة إلى التراث الحقيقي والذات والتاريخ كمفهوم حقيقي وليس بالشكل الذي يقدم هذه الأيام في الصحافة والإعلام، والذي جعل الحديث عن العودة إلى التراث والتاريخ أمراً مكروراً ومستهلكاً. إن هذا المفهوم الحقيقي يجب أن يكون نابعاً من معرفة تاريخ المنطقة وتاريخ الأرض، ويجب أن نبقي في أذهاننا أننا كنا يوماً ما عولمة للعالم، ولذلك فإن العمل والعودة إلى التراث كمفهوم حقيقي وذهني وتجريبي وحياتي وثقافي يمكن أن يقدم للفنان أعمالاً حقيقية وإيجابية وجيدة توازي قيمة المنطقة وتوازي لغة الإنسان العربي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 171