مفارقة الإعلان
يبدو أن الإعلان قديم قدم التجارة، وما أقدمها! وكما هو معروف فإنه يعتمد على علم النفس بشكل رئيسي، سواء في شكله الذي أنتجه فرويد ومن بعده، أو في بوادره التي ظهرت -أكثر ما ظهرت- في الآثار الأدبية التي تحدثت عن دواخل الإنسان.
والإعلان يفعل ما في وسعه كي يجذب المشتري إلى السلعة موضوع الإعلان، وبالتالي تقوم دراسته بناء على أكبر جاذب في السلعة لشرائها، وأحياناً يقام الربط بين جاذب ما -هو غالباً الجنس- والسلعة ربطاً غير موجود في الأصل.
مؤخراً، تطورت الإعلانات تطوراً هائلاً -ليس في التلفزيون السوري بالطبع- إلى درجة أننا أصبحنا نشعر أن عباقرة حقيقيين يعملون على إنتاج إعلان ذكي وجذاب، وممتع. فالآلية الأذكى لصنع الإعلان، هي صنع إعلان يستمتع به المشاهد، ويبحث عنه في المحطات، فيرتبط استمتاعه بالإعلان بالسلعة المعلن عنها -مع التكرار الدائم للإعلان.
إذن، ففي الإعلان جانب فني! بل إن البعض يسميه: «فن الإعلان». وهذه مفارقة، فإذا كان قد اتفق -تقريباً- على أن منطلق الفن وغايته هما الإنسان، فالإعلان إذن لا يندرج ضمن الأنواع الفنية، لأن هدفه الأكبر هو المال. ولكن من الظلم أيضاً أن نتجاهل جهد الذين يعملون في الإعلان لتقديم لحظة مكثفة، ذكية، ومؤثرة.
إن حل هذه المفارقة هو أمر ليس بالسهل على الإطلاق.. لأن الاختلاط بين الفن والتجارة في الإعلان كبير، وهذا الاختلاط ينتقل إلى أنواع الفن الأخرى. فهنالك مسرح تجاري، وسينما تجارية، ونحت تجاري، وتصوير تجاري... إلخ.
هذا يقودنا إلى مناقشة موضوع الفن وماهيته - الموضوع الأزلي والأبدي- «إن وظيفة الفن هي الارتقاء بالإنسان». ما معنى هذا الكلام؟ تبدو هذه المقولة فضفاضة وعامة. لقد نشأ الفن مع نشوء الإنسان، ومع ذلك لم ينجح الأول دائماً في الارتقاء بالأخير. كذلك تبدو مقولة «الفن للفن» مقولة مفرغة من المحتوى، فأي معنى لأي شيء في الحياة إن لم يرتبط بحياة الإنسان ووضعه. «الفن مرآة الواقع.»؟ لا شك أن الفن يعكس توجهات اجتماعية أو سياسية بطريق غير مباشر، ولكن التاريخ يثبت أن الفن ذاتي، وغير مبرمج كما هو الإعلام مثلاً. لأن الفن في النهاية هو الفرد، حتى في الفنون الجماعية (السينما والمسرح) تتحول الجماعة إلى فرد حينما تنصهر في بوتقة واحدة، لإنتاج عمل فني متماسك. يبدو هذا خارج الموضوع، لكنه ليس كذلك، لأن محاولة فهم مكان الإعلان من الفن، تقتضي التعرض لهوية الفن بحد ذاته.
قلنا إن الفن فردي.. هل الإعلان فردي؟ نعم ولا. نعم لأن فكرة الإعلان لها مرجعية ذاتية دائماً، يدل عليها موضوع الإعلان. قد تكون هذه الفكرة رفض الحرب، وقد تكون الرغبة في التعدد الجنسي، أو رغبة بالوفاء والالتزام، ...إلخ.
ولا، لأن الإعلان لا يهدف إلى التعبير عن ذات صاحبه، ولكن هدفه التعبير عن ذات موضوعه، السلعة، أي المال...
مسألة عويصة، لا يمكن تقديم كلمة حاسمة فيها (كما هي المسألة في مقالي السابق).
ماذا إذا جئنا الإعلانات من باب آخر، باب التحليل. ليس بهدف معرفة بنية الإعلان والطريقة المثلى لصنعه، ولكن لقراءته على أنه انعكاس لرغبات المجتمع وبنيته وأهدافه وتطلعاته العامة، والخاصة. سنجد في الإعلان دلالات كبيرة على كل شيء: الاختلاف الطبقي (ولست أسميه صراعاً)، إلى أين يتجه الاقتصاد الوطني والعالمي؟ ما هو الدور الذي نلعبه في هذا العالم، اقتصادياً وسياسياً وثقافياً؟
سأتركها لمرات قادمة. وكما ذكرت، إنها مسألة عويصة، ولا يمكن ادعاء القول الفصل فيها.
* فارس فارس الابن
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 171