نهلة السوسو نهلة السوسو

فنجان قهوة قليلاً من الهدوء..

في زمن، لم يعد زمننا للأسف، كان طعام الجدة يطهى على نار هادئة تستغرق ساعات، وكانت خياطة البذلة تحتاج إلى أسابيع، وكان تأليف الكتاب يحتاج إلى خبرة السنين وتراكمها.. كان الوقت والزمن هما مطبخ الإتقان وسيديً الصبر والإبداع.. لذلك لم تفلح نساء العصر في ابتداع طبخة جديدة تتفوق فيها على الجدات، ولا يحتفظ إنسان العصر بقطعة جاهزة يشتريها من معارض السوق لأنه لم يرقب مراحل خياطتها وإنجازها ولم يعرف الجهد الذي يبذل من أجلها، ولذلك نشك أن تولد ملحمة خالدة خلود جلجامش...

 صارت ولادة كل شيء وإنجاز كل شيء تسابقا ًمع الزمن ورغبة في الانتهاء منه ضمن فترة محدودة، أراها أسوأ ما تكون في عالم الثقافة والإعلام، فقبل أن تختمر خبرة الشاعر ومعارفه يريد أن يصدر ديواناً يزيد من كساد سوق الشعر، وقبل أن تكتمل الثقافة النفسية والاجتماعية والتاريخية واللغوية لمتثاقف فج يسارع إلى إصدار رواية تزيد من هدر الورق والجهد والطباعة لتضاف إلى ركام المطبوعات المكوَّم والشكوى من قلة القراء... وفي إمبراطورية الإعلام المتزايدة في الاتساع أكثر من الإمبراطوريات الاستعمارية هناك حاجة للبرامج الدائمة والمقالات اليومية ..
إذن الحاجة كبيرة للتفكير في المضمون فزمن البرنامج ومساحة المقال هي المطلوبة، ولا بأس من إنجاز كل شيء وأي شيء وليذهب المستوى إلى الجحيم …
لقد فقدنا مع تسارع المنجزات التقنية، التي يفترض أنها وجدت لخير الإنسان وسعادة الإنسان، الهدوء والاتزان الداخلي، الذي كان في الماضي مناخ التأمل واكتشاف الأعماق والنفس الإنسانية التي هي أهم من اكتشاف المجرات الكونية وأعماق المحيطات، لا... بل إن التأمل هو نفسه الذي أبدع كل شيء بشري.. وكل فن خالد وكل فلسفة، وكل علم، فهل بتنا نحتاج إلى معاهد تعلمنا الهدوء قليلاً، وتعيدنا إلى ذواتنا المفقودة وتذكرنا مجدداً بأن أي عمل مهما كان بسيطاً يحتاج إلى زمن من الإعداد والتحضير والإنضاج حتى لا تكون اللوحة ناقصة والبرنامج ثرثرة والصحيفة مسودات مبتورة لأفكار كثيرة لم تكتمل.

معلومات إضافية

العدد رقم:
166