أوراق خريفية.. «تحت التصرف»

«أبو الكمّ الأسود»* هكذا يناديه جميع الموظفين في الشركة. ويتهامسون خلسةً عليه، ويتبادلون النظرات والنكات والتعليقات الساخرة على هندامه «المتخلف» وخاصة ذلك الكمّ الأسود الذي يرتديه فور وصوله مكتبه وحتى نهاية الدوام.. 

هو موظف بسيط يعمل في الديوان. مضى على وجوده فيه ما يزيد على العشرين عاماً.. لا يوجد نوع من القرارات والتعاميم والبلاغات والكتب.. إلاّ ومرّ عليه. حتى بات مرجعاً، بل خبيراً. ومع ذلك لم تسنح له فرصة الترقّي إلى مرتبة رئيس ديوان! مع أن هذا المنصب شغر ثلاث مرات خلال مسيرته الوظيفية. وفي كل مرة كان يقول في نفسه: «من المؤكد سيتصل بي المدير ويدعوني إلى مكتبه ليبلّغني قرار تكليفي برئاسة الديوان! فأنا أحقّ من غيري مع أني لست حزبياً، لكن تقييمي كان دائماً هو: (حيادي إيجابي)» إلاّ أن أحداً لم يتذكره في المرات الثلاث هذه...!

آخر مرة، أشاع أحد زملائه بأن رئيس الديوان المقبل سيكون أبا الكمّ الأسود ! وما هي إلاّ ساعات قليلة حتى غدت هذه الشائعة حديث الشركة..! 

ذهب إلى بيته مغتبطاً وهو يفكّر: «إذا (نقشتْ) معي هذه المرة، وصرت رئيساً للديوان، سترتفع أسهمي، وقد يلين موقف جاري المتعصّب، ويقبل بتزويجي ابنته.. صحيح أنها من طائفة أخرى، لكنني مستعد لتنفيذ جميع شروطهم.. أخي بصراحة كل الأديان خير وبركة.. وماذا يضيرني لو اعتنقت ديانتهم.. ؟! فليقلْ عني الناس ما يشاؤون.. المهم أن أمضي بقية عمري مع من أحببت!»

عرّج بتفكيره إلى المقابلة المرتقبة مع المدير؛ كيف سيشكره على اختياره له رئيساً للديوان..! كيف سيستقلّ في غرفة لوحده.! كيف سيرأس زملاءه.. صحيح أن كلهم أربعة خمسة.. ولكن أن يكون مسؤولاً عليهم، خير من ألاّ يرأس أحداً.. 

صباح اليوم التالي، حلق وتعطّر وارتدى ربطة عنق جديدة، وتوجّه إلى الشركة ! وفور وصوله إلى مكتبه، وكالعادة مدّ يده إلى الكمّ الأسود ليرتديه، إلاّ أن رنين الهاتف جعله يؤجّل ذلك قليلاً..! كانت عاملة المقسم على الطرف الآخر تخبره بأن المدير يريده.. ما إن وضع سماعة الهاتف على الجهاز، حتى بدأ قلبه يتراقص فرحا، وتمتلئ روحه بسعادة طفولية...

هرع صاعداً الدرج، مشيعاً بتعليقات زملائه: «هنيئاً لك يا عمّ! مين قدّك؟! والله وصبرت ونلت يا أبو كمّ أسود! ستصبح رئيساً للديوان قدّ الدنيا..» عندما دخل مكتب المدير، استقبله هذا الأخير هاشاّ باشاً فاتحاً ذراعيه:

■ أهلاً وسهلاً برمز التفاني والشرف والإخلاص بالعمل ... أهلاً بالصفاء والنقاء والطهارة.. 

●(بتواضعٍ جمّ وهو مطرق) شكراً سيدي! هذا واجبي... 

■ الحقيقة أنك تستحق وساماً على أدائك المتميز الخلاّق.. (متحسّراً) يا حبّذا لو كان لدينا عشرة مثلك في هذه الشركة.. لكنا بألف خير.. 

●(كاد يذوب خجلاً وقد امتلأت روحه بالسعادة) أرجوك أستاذ ! قلبي لا يحتمل كل هذا الإطراء..! ثم أنا لا أقوم إلا بواجبي وبما يمليه عليّ ضميري وحبّي لهذا الوطن العظيم.. 

■ يا رجل! لماذا تستهين بقدراتك وتقلّل من شأنك؟! والله -ولا تعتبر كلامي مجاملة- لم أسمع بموظف يتحلّى بما أنت فيه! اشتهيت مرة أن تصلني ملاحظة عنك أو شكوى بحقك! (منتبهاً إلى وقوفه) تفضلْ.. تفضلْ اجلس.. لمَ أنت واقف هكذا؟! (وأشار بيده إلى الكنبة).

●(بارتياحٍ لم يشهد له مثيلاً) العفو منك سيدنا...

وجلس على الكنبة المقابلة لتلك التي يشغلها شاب في مقتبل العمر! وقد انتبه إلى وجوده لأول مرة مذْ دخل مكتب المدير.! 

■ سأعرفك على هذا الشاب الذي يجلس قبالتك، لا أدري إن كان سبق والتقيتما.. على كل حال، فهو كما ترى شاب يضجّ بالحيوية والنشاط.. وقد علّقت عليه آمالاً عريضة.. وأعتقد أنه سيكون ناجحاً بعمله، خاصة إذا ما تم التعاون المنشود بينكما كما آمل. إنه رئيس ديوان الشركة الجديد!

●(امتقع وجهه واربدّ وتملّكه شعور بهزيمة قاهرة، وأحسّ بأن برميلاً من الخراء قد اندلق عليه.. وأن الحياة جديرة بان توصف بالداعرة والقحبة والأخت شرموطة..! لم يستطع إخفاء آثار وقع الصدمة عليه. ولا طوفان الإحباط الذي غمره..! بصعوبة بالغة تمكّن من اعتقال ما تبقّى من لعاب في فمه ليتسنى له القدرة على الكلام..! وبصوت متهدج مخنوق رحّب بالشاب): أهلاً وسهلاً...

■ (متطلعاً نحو الشاب) أترى هذا الذي أمامك؟ إنه مرجع حقيقي، ليس بالديوان فحسب، بل بكل ما يتعلق بالشؤون الإدارية...! إنه معجزة يا رجل! مفخرة لنا جميعاً، إنه... ماذا أقول لك؟.. باختصار إنه ولا كل الموظفين..! سيكون ساعدك الأيمن ولن يبخل عليك بأية معلومة تطلبها.. أتمنى لكما التوفيق معاً. هيّا تفضلْ اذهب معه ليدلّك على مكتبك لتباشر مهامك.. وكما قلت لك زميلنا هذا معطاء شهم.. فلا تتردد بتوجيه أي سؤال يخطر على بالك، لتكتسب منه الخبرة وتتعلم.. مرة ثانية أتمنى لكم التوفيق..

وكجندي وقع بالأسر قبل أن يطلق أية رصاصة، بعد أن كان يحلم بخوض معركة، النصر فيها مؤزّر حتماً.. طأطأ رأسه منصرفاً وكأن جميع سياط الإهانة عبر التاريخ اتحدت وانهالت عليه...

في اليوم التالي، وبعد أن أمضى أسوأ ليلة في حياته. قرر اعتناق (العونطة) وقال في نفسه: «لحدّ هون وبس.. يكفي ما قدّمته لهذه الشركة من خدمات دون كلل، طيلة العشرين سنةً الفائتة، ولم أحصد سوى الخيبة والذل والتجاهل.. وهل تطور البلاد متوقف عليّ وحدي؟! سوف أريهم عيني الحمراء من الآن فصاعداً، حتى أثير غضبهم عليّ، فيضعني المدير تحت تصرفه، ولا يكلفني بأية مهمة! وأرتاح من الدوام والعمل والمسؤولية..!»

فالمدير السابق تم وضعه تحت تصرّف الوزير...!

ومدير الشؤون المالية، وبعد أن اختلس عدة ملايين.. وضع نفسه تحت تصرّف المدير..! 

فلماذا لا يشملني هذا الاجتهاد البيروقراطي الجذاب والمريح..؟!

وصل إلى الشركة الساعة الثامنة والنصف صباحاً! متأخراً عن سابق إصرار وتعمّد..! وسط ذهول زملائه.. متأبطاً جريدة لأول مرة في حياته! جلس خلف مكتبه، وسحب الكمّ الأسود المعلق على مسمار في الحائط، ووضعه في درج المكتب. طلب من البوفيه فنجاناً من القهوة خلافاً للعادة! وبدأ بحلّ الكلمات المتقاطعة.. 

لحظات ويستدعيه رئيس الديوان الجديد بواسطة الآذن لاستشارته بشؤون العمل.. فيخبره أن مزاجه ليس رائقاً هذا الصباح وقد يلبّي طلبه بعد حين....! زملاؤه في الغرفة غير مصدقين لما يرونه ويسمعونه..! 

قبل نهاية الدوام بساعة، حمل جريدته وانصرف إلى البيت..!  في اليوم التالي كرر ما فعله البارحة..! في اليوم الثالث، كانت عقوبة التنبيه تنتظره على مكتبه..!

شعر بأن هدفه بات قاب قوسين أو أدنى من التحقق.. قال في نفسه: «يا رجل! دق الحديد وهو حامي» أمسك ورقة وكتب عليها: السيد المدير: لقد طفح الكيل.. أعتقد أنه من الأفضل لكم طيّ العقوبة المفروضة بحقي.. فأنا لست ممن يعاقب.. أتفهم؟ وعوضاً عن انهماكك بي، أظن أنه من الأنسب لكم الانشغال بعدد الذين يتقاضون رواتبهم وهم في بيوتهم.. بلجنة المبايعات المنحصرة بثلاثة أسماء طيلة فترة تولّيك منصبك، يتبادلون رئاستها بالدور.. بلجنة فض العروض التي تتعاقد مع من يدفع لك ولها أكثر.. بعقود إصلاح الآليات الوهمية في المرآب.. والتي هي أكثر من أن تحصى.. 

هل أذكّرك بثروتك الأسطورية وكيف حصلتَ عليها؟!

لن أسترسل أكثر بكشف المستور الأعظم، فكل شيء بوقته حلو...! وقد أعذر من أنذر... 

ملاحظة: سأتغيب عن الشركة عشرة أيام لأرى كيف ستعالج وضعي الوظيفي.. 

■ التوقيع...

نسخة إلى: 

- قيادة فرع الحزب.

- السيد المحافظ.- الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش

- والجهاز المركزي للرقابة المالية والتفتيش المالي.

- كافة الفروع الأمنية في المحافظة .

- كافة الصحف الرسمية وغير الرسمية في البلاد.

ثم أودع كتابه هذا لدى سكرتيرة المدير وانصرف إلى بيته.. 

    بعد عشرة أيام من غيابه عن الشركة، عاد إلى مكتبه ليجد عليه قرار صرفه

من الخدمة! استناداً للمادة (138) من القانون الأساسي الموحد للعاملين في الدولة.. وقد ذيله المدير بحاشية: «رُحْ بلّط البحر يا أبو كمّ أسود...! رُحْ ...»

(*) الكمّ الأسود: عبارة عن قطعة قماش مفصلة بشكل أسطواني يوجد مطاط في طرفيها لربطها إلىالذراع كان يرتديه الكثير من الموظفين سابقاً أثناء عملهم تفادياً لتلوث ثيابهم من حبر الكتابة.

■ ضيا اسكندر- اللاذقية  

 

  عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.