من حرب الأفيون إلى النفط... القرصان واحد

يبقى السلب والسيطرة الدافع الأهم لكل الغزاة والمستعمرين. ففي الحرب التي شنها الإنكليز والفرنسيون على الصين، والتي سميت بحرب الأفيون تجلت «حضارة» المحتلين بالنهب والتدمير ـ شأن ما يجري حالياً في أرض العراق ـ ولعل الشاهد الساطع على ذلك الرد الذي سطره الأديب الفرنسي المشهور فيكتور هوجو على رسالة أحد أعلام السلطة في زمانه. وهذا نص الجواب:

إلى القبطان تيلر

تسألني أيها القبطان الكريم عن رأيي في الحملة الصينية، وأن ترى «أن هذه الحملة مشرِّفة وباهرة» وقد بلغ بك الكرم مبلغاً جعلك تولي رأيي شيئاً من الأهمية، وفي رأيك أن حملة الصين التي شُنت تحت رايتيْ الملكة فكتوريا والامبراطور نابليون مجد ينبغي أن تتقاسمه فرنسا وإنكلترا وتود أن تعرف مدى تأييدي لهذا النصر الفرنسي الإنكليزي. وبما أنك تريد أن تعرف رأيي في هذا الأمر فها أنذا ابديه لك:

كانت ـ توجد في ركن من أركان العالم ـ  أعجوبة من أعاجيب الدنيا وكان اسم هذه الأعجوبة «القصر الصيفي».

إن للفن مبدأين: مبدأ الفكرة الذي نهض عليه الفن الأوروبي ومبدأ الخيال الذي يقوم عليه الفن الشرقي. وكان القصر الصيفي يمثل بالنسبة للفن الخيالي ما يمثله معبد البارثينون الإغريقي بالنسبة للفن القائم على الفكرة، إذ كان ينطوي على كل ما يمكن أن يتمخض عنه خيال شعب يكاد يكون خارقاً، لما نألفه، ولم يكن هذا القصر كالبارثينون بسيطاً وفريداً، وإنما كان بمثابة نموذج ضخم للخيال إن صح أن يكون للخيال نموذج. تخيل مبنى ما يعجز عن وصفه اللسان، وكأنه أحد مباني القمر، فترى أمامك هذا القصر الصيفي، وشيدْ حلماً من الرخام والبرونز والخزف، واصنع دعائمه من خشب الأرز، وزينه بالأحجار الكريمة، ودثره بالحرير، واجعل هنا معبداً وهناك حريماً، وفي ذلك المكان الآخر قلعة، وضع فيها آلهة ومسوخاً، واخلع عليه حللاً براقة ورصعه بالزخارف واطله بالذهب وجمله بالمساحيق  واختر بنائين شعراء واعهد إليهم ببناء ألف حلم وحلم من أحلام ألف ليلة وليلة، وأضف إلى ذلك البساتين والأحواض ونوافير الماء والزبد، واطلق فيها البجع والطواويس. وباختصار تصور كهفاً باهراً من صنع الخيال البشري ويتمثل في معبد وقصر… ذلك هو هذا الأثر الذي اقتضى إنشاؤه عملاً دؤوباً عكفت عليه أجيال متعاقبة في صبر وأناة. فمن أجل من شيد عبر القرون هذا الصرح  الذي تبلغ ضخامته ضخامة مدينة كاملة؟! إنه شيد من أجل الشعوب لأن ما يصنعه الزمن يؤول إلى البشر. لقد كان الفنانون والشعراء والفلاسفة يعرفون القصر الصيفي، وقد تحدث عنه فولتير على سبيل المثال، وكان يقال: ثمة البارثينون في اليونان، والأهرام في مصر والكوليزيه في روما، ونوتردام في باريس، والقصر الصيفي في الشرق. وهذا القصر رأه في الحلم من لم يره منا رأي العين، فقد كان بمثابة أثر رائع مجهول نستشفه من بعيد من خلال حجاب الغسق، كما لو كان طيفاً من أطياف حضارة آسيا يتراءى في أفق الحضارة الأوروبية.

بيد أن هذه الأعجوبة آلت إلى الزوال..!!! ففي يوم من الأيام دخل القصر لصان مسلحان، فنهبه أولهما وأشعل فيه الآخر النيران. ويبدو أن  السارق يمكن أن يتنكر في ثوب قائد منتصر. وبذلك يكون  القائدان المنتصران قد اشتركا في اجتياح القصر وتخريبه مناصفة، واختلط بكل هذه الأعمال اسم إلجين «إلجين هو سفير بريطانيا العظمى في السلطنة العثمانية الذي سرق من أثينا جانباً كبيراً من طنف معبدها البارثينون لإنقاذها من همجية العثمانيين حسب زعمه». والذي يذكرنا طبعاً بمعبد البارثينون فإن ما حل بالبارثينون فعله الغزاة بالقصر الصيفي على وجه أكمل وأتم، بحيث لم يتركوا شيئاً إلا ونهبوه، ولئن اجتمعت كنوز كنائسنا قاطبة فلن تضاهي هذا المتحف الشرقي الرائع الخلاب، فلم يكن هذا القصر يحوي تحفاً فنية فحسب وإنما كان يضم كذلك أكواماً من المصنوعات الذهبية، فياله من عمل باهر، ويالها من غنيمة هبطت من السماء، لقد ملأ أحد القائدين جيوبه وملأ الثاني خزائنه، وعاد الاثنان إلى أوروبا يتأبط كل منهما ذراع الآخر فرحين ضاحكين.

تلك هي قصة اللصين المسلحين.. ونحن الأوروبيين نعتبر أنفسنا متحضرين، ونعتبر الصينيين همجاً. فانظر ماذا فعلت الحضارة بالهمجية. وسيذكر التاريخ اسم هذين اللصين فأحدهما يدعى فرنسا والآخر يدى  إنكلترا.. ولكن عفواً لدي استدراك: وأشكرك على منحي فرصة التعبير عن هذا الاستدراك: فجرائم الحكام لا يحمل تبعاتها المحكومون، إذ قد يكون أعضاء الحكومات أحياناً لصوصاً… أما الشعوب فأبداً… وقد حازت الإمبراطورية الفرنسية نصف هذا النصر، وهي اليوم تعرض بسذاجة الأبرياء تحف القصر الصيني الرائعة، وكأنها من ممتلكاتها، وآمل أن يأتي يوم تتحرر فيه فرنسا وتنظف فتعيد هذه الغنائم إلى الصين المنهوبة، وريثما يتحقق ذلك ستبقى هناك سرقة وسيكون هناك سارقان، وما على الرسول إلا البلاغ… فهذا هو أيها السيد الكريم مدى تأييدي لحملة الصين.

● التوقيع: فكتور هيغو

 

■ ترجمة وإعداد: زهير ناجي