الصورة ما بعد الحرب

بدأت آثار الحرب الأمريكية على العراق بالظهور في الأعمال الفنية للأطفال العراقيين، ولم تكن الدراسات تتوقع ظهور هذه الآثار بهذا الشكل الواضح في هذه الفترة القصيرة، إلا أن دراسة أعدتها مجموعة للبحث العلمي والفني أثبتت أن هذه الآثار باتت واضحة  في هذه الرسوم، وقد قامت شركة »براوندز« بعدة دراسات سابقة في هذا المجال في العديد من دول العالم، إلاّ أن أهم هذه الدراسات تركزت في كل من البلقان وفلسطين ومجموعة من الدول الإفريقية.

أما عن الدراسة التي قدمتها فقد اثبتت أن الآثار النفسية للحرب باتت واضحة وجلية في رسوم الأطفال الذين شملتهم الدراسة والذين تتراوح أعمارهم مابين 5-12 سنة، فخرجوا برسومات مخالفة للشكل الاعتيادي في رسم الأطفال في ظروف مشابهة، فكان اللون الأبرز الذي اعتمد عليه الطفل العراقي في لوحاته هو اللون البني أو الأسود المشوب بعدة ألوان قاتمة أخرى في داخله، وكان الطفل يعمل ملء مساحات واسعة وكبيرة من اللوحة المرسومة بهذا اللون، أو يعملون على قَسم اللوحة إلى قسمين الأولى تحتوي هذا اللون الذي يشمل الجزء الأكبر من اللوحة بينما القسم الثاني يحوي بعض التزيينات الأخرى. 

وقد بدأت التفاصيل والجزئيات الصغيرة تختفي من رسومات الأطفال العراقيين التي تظهر في رسوم أطفال أمثالهم في الدول المجاورة، وأخذ الأطفال يعوضون التفاصيل الصغيرة إما بمساحات لونية أخرى كبيرة، أو انهم يقفون دون أن يعرفوا ماذا يفعلون، بينما كانت النسبة التي حافظت على رسم التفاصيل الصغيرةبتصوير أشكال غريبة كان من الصعب دراستها دلالياً، فلم تكن هذه التفاصيل ترتبط بالقتل والدمار الذي لحق بالعراق، بل كانت هذه التفاصيل رموزاً تعبر عادة عن الفرح، كالفَراش أو العصافير أو الورود بأنواعها  توضع إلى جانب الكتلة اللونية الكبيرة، وإما تترك بيضاء دون ألوان أو تلون بطريقة مشوهة، وليست غرابة الألون بأن تلون بألوان قاتمة فهي تلون بنفس الأولان الحقيقية للوردة لكن معكوسة. أما الأشكال التي ترتبط مباشرة بالحرب فلم يعبر عنها الأطفال مباشرة في رسوماتهم إلاّ قلة منهم رسمت قنابل وصوريخ، إلأّ أن نسبة هؤلاء الأطفال كانت قليلة وتعزو الدراسة ذلك إلى كثرة الحروب التي دخلت العراق فيها ورغبة الطفل بالتخلص من هذه الأشكال من حياته. وكان من الأشياء البارزة في هذه الدراسة هو أن كل ما يتعلق بنظام صدام حسين والذي كان من مميزات رسوم الأطفال خلال السنوات السابقة اختفى، كالصور الصغيرة التي كانت تلصق داخل اللوحة، أو الأعلام، وكل الأشكال التي تعبر عن هذا النظام اختفت، واستُبدلت بمساحات بيضاء صغيرة بالحجم الذي كانت تشغله هذه الأشكال في المرحلة السابقة. ولاحظت الدراسة أن الطفل عندما يصل إلى المكان الذي يستوجب منه أن يضع إحدى الأشكال التي تمثل النظام السابق يقف مكتوف الأيدي بشكل أوتوماتيكي أول الأمر ثم يقرر تركها فارغة، وخاصة لدى الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5- 9 سنوات، أما الأطفال الأكبر عمراً فكانوا يملؤون الفراغات بالعلم العراقي القديم أو الجديد.

ولم يظهر الجندي الأمريكي في هذه الرسومات بشكل بشع أو شرير بل ظهروا بشكل جميل، وغلب رسومات المجندات على المجندين، إلاّ أن معظم هؤلاء الجنود كانوا إما مغمضي الأعين أو بلا أعين، ولم يفعلوا شيئاً، وكانت الأشكال الأكثر تناسقاً هي الآليات العسكرية التي ترسم بحرفية ودقة عاليتين إلاّ أنها تشوه بضربة مقصودة في النهاية. 

وتقول الدراسة أن أكثر ما يميز الطفل العراقي ورسوماته هو اختلافه عن بقية البلدان التي كانت في حالة حرب وقدرته على التعبير عما في داخله بسرعة أكبر، وابتعاده عن المباشرة في طرح عواطفه ومشاعره. 

 

إلاّ أن المشترك بين جميع الأطفال الذين تعرضوا للحروب، حسبما تقول الدراسة، هو الطاقة اللونية الكبيرة التي تبرز في لوحاتهم ورغبتهم في استخدام هذه الألوان بأقصى حالاتها، ومحاولتهم إخفاء الغضب الداخلي وعدم إظهاره في أعمالهم.