من التراث السوري القديم

من التراث السوري القديم

نستطيع تتبع تطور العناصر الأولى للديالكتيك في تراث شعوب الشرق القديم، فخلال 2500 سنة تطورت المادية الديالكتيكية منذ تعاليم الفيلسوف الإغريقي هيراقليت في القرن السادس ق.م، إلى الصراع ضد الحقيقة المطلقة عند لوقيانوس السوري في القرن الثاني الميلادي وأخيراً إلى الشكل الذي أخذته على يد ماركس وآنجلز في القرن التاسع عشر ولينين في القرن العشرين.

آلان داود

فلسفة عصر 

تفسخ العبودية الرومانية

إن الاستثمار الوحشي لعمل العبيد قد أدى إلى احتدام التناقض الرئيسي في دولة روما – التناقض التناحري بين مالكي العبيد والمنتجين «العبيد» - وازدادت انتفاضات العبيد مثل انتفاضة سبارتاكوس 74-71 ق.م.

جاء في كتاب «عرض اقتصادي تاريخي، جامعة الصداقة في موسكو1960»: تدهور الاقتصاد الزراعي الكبير ونشأ الاقتصاد القائم على التأجير وأصاب الخراب الفلاحين الصغار والحرفيين الأحرار وتعاظمت أزمة النظام العبودي وقامت الحركة الزراعية التي قام بيلبيو روما بتوزيع الأراضي التي استولى عليها مالكو العبيد نهاية القرن الثاني للميلاد. وأصبح العبيد والفلاحون والحرفيون يناضلون سوية ضد مالكي العبيد وقاد عبيد الباوغاد «المناضلون» انتفاضة كبيرة في اسبانيا وفرنسا في القرن الثالث، واشتعلت الحروب الأهلية في كل مكان، وانتهت بالتفسخ النهائي لأسلوب الإنتاج العبودي في روما القديمة وبدأت العلاقات الإقطاعية بالظهور منذ القرن الرابع للميلاد.

رافق تفسح العلاقات الاقتصادية الاجتماعية العبودية، تفسخ وتراجع الفلسفة التي ازدهرت في اليونان وروما القديمة، ولكنها لم تختفي في هذا الصراع، وتجلت بأشكال مختلفة في الأدب الجديد الذي بدأ يظهر منذ القرن الثاني للميلاد حاملاً بين صفحاته المسألة الأساسية للفلسفة والصراع المتواصل بين تياري الفلسفة في نصوص الأدب نفسه.

المفكر لوقيانوس السميساطي

يعتبر المفكر السوري الساخر لوقيانوس السميساطي واحداً من الفلاسفة الذين كانوا على صلة مع الأوساط المعارضة للإمبراطورية الرومانية من طبقة أسياد العبيد، ولد في سميساط الواقعة على نهر الفرات شمال سورية، عمل في طفولته مع عمه النحات، إلا أنه كسر- لسوء حظه - يوماً ما لوحاً رخامياً، مما جعل عمه يضربه ويعود إلى البيت، وهناك راوده حلم بامرأتين تمثلان النحت والأدب، وكانت كل واحدة تعرض مزايا حالتها الفنية.

 سار في بداية طريقه على مثال ديموشينيز في عرض الفضائل، وكان على معرفة جيدة بمدارس الفلسفة المتنافسة في عصره، إلا أنه نفض يديه من المدارس الرسمية واتخذ الأدب النثري الساخر طريقاً.

يحتل لوقيانوس في الأدب النثري - كساخر ظريف -، المكانة الفريدة التي يحتلها أرستوفان في الشعر الإغريقي، سلط نصوصه الساخرة على الميثولوجيا والفرق الفلسفية المنتشرة في عصره وكان يوجه تهجمات قاسية ونعوت ازدراء بحق دجالي الفلسفة بالأخص، كما جاء في كتاب «أعمال لوقيانوس السميساطي، المفكر السوري الساخر، في القرن الثاني الميلادي» ترجمة سعد صائب ومفيد عرنوق 1987.

حوارات نثرية

وصلنا من أعمال لوقيانوس 80 قطعة باسمه، منها ثلاث مجموعات مكونة من 71 حواراً، ومن تلك القطع عشرون تالفة أو مشكوك في تأليفها، إن لوقيانوس ككاتب، بليغ، سهل وغير متكلف، ومتابع دقيق لأفضل النماذج الإغريقية مثل: أفلاطون والخطباء. وأسلوبه أبسط من أسلوب بلوتارك، خاصة في مؤلفاته: «حوارات الآلهة»، «الآلهة البحرية»، «حوارات الموتى» وتعتبر نماذج للإنشاء الإغريقي البارع الدقيق متهكماً على الميثولوجيا الشعبية.

كان يستخدم أسلوب الحوارات في نثره، محادثات مبنية على الدراما وسرعة البديهة المازحة، وهو الأسلوب الذي لم يعرفه الفلاسفة اليونانيون لأنهم أعتبروه أدنى منزلة من «الحقيقة الفلسفية المطلقة».    

يعد حوار «التاريخ الحقيقي» للوقيانوس واحداً من أفضل وأمتع البحوث المكتوبة عن العصور القديمة بطريقة السرد الطويل، وهي التي أوحت لكل من رحلات جلفر لسويفت، ورحلة بانتا غريل لموبيليه، ورحلة إلى القمر ليرانودي بيرجاك. في هذا الحوار تحدث لوقيانوس عن رحلة على متن سفينة إلى القمر والنجوم قبل أن يحدث ذلك فعلاً بـ 1900 عام.

في البحث المتعلق بالآلهة السورية «الآلهة – القمر – أفروديت السامية» يقدم لنا لوقيانوس تقريراً عن المعابد، ومذابح الكنيسة والقرابين. 

أما حوار «السفينة والتمنيات» فيقدم لنا تقريراً موثقاً عن قياسات سفينة مصرية محملة بالحبوب ضلت طريقها ووصلت إلى إيطاليا بفعل رياح معاكسة، وتدور القصة عن حوار بين مجموعة من الأصدقاء على متن السفينة، كل واحد منهم يعلن عن جملة من التمنيات، يريد أحدهم ذهباً وآخر بيتاً رائعاً وأدوات من ذهب وثالث يريد أن يكون طاغية قوياً، وتتجلى هنا فكرة الثروة والسلطة.

وتمثل «مبيعات الحيوات» مزاداً يعقده زيوس كبير الآلهة عند الإغريق، ليرى أي ثمن ستجلبه حيوات عدد من ممثلي الفرق الفلسفية المتنافسة، ويجتاز فيثاغورثي يتكلم لهجة أيونية الاختبار فيتم تقييمه بمبلغ 75.6 درهم، يتبعه ديوجينيوس بطل الحقيقة المطلقة لأنه مواطن عالمي وعدو المتعة، ويحصل سقراط على سعر طالنين وهي عملة إغريقية قديمة، فيشتريه ديون طاغية سيراكوس بـ 100 باوند، بينما يحصل بيرهو الشكوكي الذي يقر بأنه «لا يدري شيئاً» على أربع باوندات لأنه ممل وغبي وليس لديه من الإحساس أكثر مما لدى الدودة.

ديالكتيك لوقيانوس 

في الأدب النثري

والحقيقة أن الحوار والجدل قد تحسن على يد لوقيانوس، في ذلك العصر، وكان لعلم البلاغة تأثيراً كبيراً، ذاك العلم الذي كان مولعاً بالكلام فقط، وقد جاهد لوقيانوس لأن يكون الجدل «Dialectic» موجوداً في حواراته كلها للدحض باستخدام الأجوبة والأسئلة بأوجز شكل.

انطلق لوقيانوس في صراعه ضد التيارات الفلسفية التي سادات في عصر تفسح دولة روما القديمة وتفسخ الفلسفة السائدة حينها في حواراته ذات النزعة الديالكتيكية، ويظهر تمكناً رائعاً باللغة ومفرداتها ومن يقراً صفحات لوقيانوس اليوم يجدها سهلة وممتعة مثل رواية معاصرة، مستخدماً تعابير ومصطلحات لاتينية سادت في ظل الحكم الروماني. وقد ساعده عمله في مكتب قانوني تجاري في مصر أن يضطلع على القانون الروماني والثقافة المصرية الفرعونية بالإضافة إلى أنه تشرب الفلسفة الإغريقية والتراث الشعبي السوري والمصري، وأن يكتب نصوصاً لاذعة ادعى أنها ليست فلسفية ولكنها تحمل الفلسفة في طياتها كلها.

كان كره لوقيانوس للفلاسفة يعود إلى كرهه «للفلسفة المطلقة والحقيقة المطلقة»، متسائلاً ما هي الحقيقة؟ ومن هم معلموها الحقيقيون؟  

كان فلاسفة ذلك العصر يدعون امتلاك الحقيقة المطلقة، لذلك قال لوقيانوس: أن الفلسفة غير جديرة بالمتابعة والاهتمام، وهذا رأي خاطئ، لكنه وهو صاحب هذا القول وضع الأفكار الفلسفية التي تقول بعدم وجود الحقيقة المطلقة، وظهرت فكرة «الحقيقة» في أعمال لوقيانوس ليس كشيء جامد مطلق، وإنما متحرك متعدد الأشكال.