عقدة ذنب الناجي..

شعور عميق بالذنب يعتري قلوب عدد كبير من السوريين على اختلاف آرائهم ومواقفهم السياسية، يتسلل إلى دواخلهم مهما جاهدوا في قمعه وإخفائه بصراخهم العالي مع من يخالفهم الرأي، بنظرات عيونهم الحادة، وأحياناً بسلوكهم العنيف.

شعورٌ بالذنب يظهر في ساعات الأرق ليلاً، والظلال السود تحت العين، الامتناع عن الطعام إلا قليله، وإدمان مشاهدة الأخبار.

بطريقة ما، نجح البعض في إشعار من يخالفهم الرأي بأنه مذنب، وأنه مسؤول، وأنه من يتحمل وزر ما يحدث في البلاد. والدافع لذلك أنه دائم الحاجة للدفاع عن نفسه ضد الاتهامات المبطنة والعلنية.. هو دائماً يبرر ويشرح ويحمي نفسه بقذف بالاتهامات نحو الطرف الآخر.

 هكذا تحولت عقدة الذنب لدوامة لا تنتهي: المؤيدون للنظام يتهمون المعارضين المحتجين بأنهم المسؤولون عما يحدث في البلاد، بأنهم يدفعون بالبشر للموت في الشارع.. بأنهم يسوقون البلاد نحو المجهول.. وأنهم وحدهم المسؤولون عن احتمال الوصول إلى اقتتال أهلي لا يبقي ولا يذر.. وعن تفتيت البلاد وتخريب الاقتصاد وفتح المجال للتدخل الخارجي..

المعارضون للنظام والرافضون لممارساته يتهمون بدورهم الموالين بأنهم جبناء خاضعون، يساهمون بموقفهم ذاك في قتل الأبرياء..إلخ..

وبالمقابل، تتحد هاتان الجهتان ضد الأفراد الذي اتخذوا موقفاً موضوعياً بين الاثنين، ليتهموا بالازدواجية والضعف والعجز عن اتخاذ موقف.

وهكذا، فالجميع ينال نصيبه من مشاعر الذنب: الأفراد الذين يعيشون في مدن مستقرة نسبياً، يشعرون بالذنب لأن مدينتهم لم تعش اضطراباً وخوفاً كغيرها.. المهاجرون تجاه أهلهم الذين خلفوهم وحدهم في الوطن، الأطفال لأنهم ليسوا كباراً كفاية، الأحرار لأن حريتهم لم تقيد بسجن أو معتقل، من لم يتظاهر لأن آخرين يتظاهرون بدلاً منه، الجميع يشعر بالذنب لأنه يحس مشاعر الخوف والارتباك كما لو أنها مشاعر محرمة يجب ألا تكون.

والذنب الأصعب من ذلك كله هو ذنب البقاء على قيد الحياة!! والشعور العميق بالخطيئة بمجرد العيش، تلك المشاعر لا تهدأ ولا تختفي، وإنما تزداد يوماً بعد يوم مع ازدياد عدد الشهداء.. تلك المشاعر تجعل الأفراد يشعرون بألا قيمة لأفكارهم وأعمالهم، وأنهم لم يقدموا ما يكفي لأنهم ببساطة ما زالوا أحياءً.

مشاعر الذنب هذه تشكّل قاسماً مشتركاً بين أطياف الشعب السوري، يقتسمونها فيما بينهم، يتقاذفونها دون أن يعلموا أنهم ليسوا المذنبين الحقيقيين، أو ليسوا الوحيدين.. وأن المذنبين الحقيقيين والأكبر لم يراجعوا أنفسهم كما فعلوا هم، لم يعتذروا عن أخطائهم ولم يتوقفوا عن فعل المزيد، وبطريقة ما نجحوا في جعل الأفراد يشعرون بالذنب والخطيئة، وأنهم من يجب أن يقدم الاعتذارات والمبررات وحجج الدفاع، وبأن البقاء على قيد الحياة ذنب لا يزول.