جهاد أسعد محمد جهاد أسعد محمد

تفاصيل ليست هامشية

تغير المشهد العام في اللوحة الاجتماعية الاعتيادية للعاصمة وضواحيها.. تغيرت تفاصيله النافلة مع تغير طبيعة النبأ التلفزيوني ونوع الأخبار الشفاهية المهموسة وحركة الناس ومراكز تجمعهم ونقاط تفرقهم.. تغيرت ألوان الصباحات والمساءات وطبيعة أحاديث المستيقظين والذاهبين إلى نوم أرِق..

توقفت «أم نديم» عن استقبال بناتها (بمن ذلك ابنتها الكبرى التي تسكن حينا) وأصهارها في بيتها العربي في «الميدان» كل جمعة لتطعمهم المحاشي والكبب والحلويات الشامية، ابنتها الصغرى المقيمة في درعا، لم ترها منذ آذار الماضي سوى مرتين: مرة حين جاءت لتسأل في العاصمة عن مصير زوجها المختفي، ومرة حين ذهبت أم نديم نفسها إلى درعا لتبكي أحد أسباطها الذي قضى قبل أن يبلغ العشرين..

لم يعد لدى البقّال القروي الطيّب «أبو معن» وقت لممارسة الكسل يوم الجمعة: أركيلة وأباريق متتالية من المتة في الزقاق مع شباب الحارة المتنوعي الاهتمامات والأصول المناطقية.. أصبح كل جمعة مضطراً إلى الاستيقاظ بشكل مبكر والتسلل من الحي خلسة مرتدياً حذاء رياضياً. وقد شوهد أكثر من مرة يصعد إلى حافلة عابرة ذات منظر مخيف.. في الأيام العادية يجلس «أبو معن» في دكانه ساهماً، مشبعاً بالهم والحزن.. لم يره أحد يبتسم منذ أربعة أشهر..

أما «مروان»، جاره النجار المبدع قليل الكلام، الذي لم يصلّ ركعة واحدة من قبل، فلم يعد يلبي طلبات الجيران لصيانة مطبخ إفرنجي أو تصليح باب خزانة في أيام الجمع، متذرعاً بصلاة الجمعة.. وغالباً ما يقضي اليوم بطوله خارج الحي، وأحياناً لا يعود إلا بعد يومين أو أكثر..

«عبود» الحشاش، لص المنازل المشهور وخادم السياح الخليجيين، خرج من السجن بالعفو العام الأخير، وفي اليوم الثاني انضم لـ«الثورة» (حسب توصيفه)، وحين سأله أحدهم مرة عن سر هذه الثورية المفاجئة، ولماذا لم يتم اعتقاله حتى الآن رغم علنية «ثوريته»، أجابه: «شي ما بيخصّك»!!

جارتنا «أم صلاح» التي تسكن حينا منذ أكثر من أربعين عاماً، أصر ابنها الصغير «ياسر» على استضافتها في بيته في «عش الورور» رغماً عن أنفها.. توادعت مع نساء الحي بالدموع، ثم غادرت بسيارة «بيجو» ذات لوحة خضراء، ومضت وعيناها الدامعتان معلّقتان في عيون مودّعاتها.. منذ تلك اللحظة لم تتوقف عن الاتصال بجاراتها يومياً لتطمئن عليهن وعلى أولادهن وأزواجهن..

«عبدو» الحميماتي لم يعد يطيّر رف الحمام في سماء الحي.. فليس كل الرصاص يطلق على الصدور العارية والظهور الغافلة.. بعضه يصيب الهواء وما يحمل!.

وتتصاعد الأحداث.. «محمود» الذي أتم خدمة العلم في مطلع نيسان الفائت ولم يتسرّح، عاد إلى أهله مؤخراً مرتدياً علماً سورياً لم يحظ يوماً بفرصة الدفاع عنه ضد أعداء حقيقيين.. أقامت له أمه عرساً عظيماً، وماتت بعد يومين!.

طالب الحقوق الخجول الوافد من محافظة أخرى، والذي لم يتسنّ إلا لقلة في الحي أن يحفظوا اسمه الكامل، سكنت رصاصتان في ظهره، فحولتاه إلى مُقعد دائم، ولم يخرج من المشفى التي أسعفه إليها أصدقاؤه الصارخون عائداً إلى محافظته، إلا بعد إجباره على توقيع وثيقة مكتوبة سلفاً تؤكّد أن عصابة مسلحة هي من استهدفته!.

ثرثرات الأحياء لم تعد تهتم بفلانة كيف تضحك، وفلان كيف يمشي، والثالثة ماذا تلبس ومن تقابل.. الأحاديث كلها عن الشهداء والشبيحة والمعتقلين وحصار المدن و«العواينية» ومواقف الدول ونجوم السياسة..

في مصادفة لا تحصل إلا في الأفلام الهندية التقى في «يوم الجمعة الدامي» في حي القابون البقّال القروي «أبو معن» والنجار الصامت «مروان»، وكان كل منهما واقفاً في جهة... وحين تلاقت نظراتهما على وقع الرصاص، امتلأ الجو بالدخان والغبار الكثيف.. الكثيف جداً.. وانعدمت الرؤية، ولم يعد كلاهما يسمع إلا الأنين والاستغاثات والشتائم.. وبعد توقف الضجيج وانقشاع الغبار كان كل منهما قد ذهب مؤقتاً في اتجاه.. ولم يؤكد أحد أنهما التقيا في الحارة مجدداً حتى الآن.. فهل سيلتقيان قريباً؟ وكيف سيكون ذلك وفي أي مناخ؟ وهل سيتسنى لهما أن يجلسا في الزقاق لشرب المتة بعد ذلك، بينما يطيّر «عبدو» الحميماتي رفّ الحمام إلى السماء؟.

هذا هو سؤال الوطن.... 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على الأربعاء, 12 تشرين1/أكتوير 2016 12:15