منار ديب منار ديب

شعبٌ بدأ من الصِّفر

رغم أن اسم فلسطين مغرق في القدم، وهو الاسم الذي منحته شعوب البحر (الفلستيين) لأرض كنعان، واستعمله الرومان لاحقاً، كما كان معروفاً في الحقبة العربية، إلا أن تبلور هوية فلسطينية مستقلة عن الهوية العربية والشامية (من بلاد الشام) ، تأخر كثيراً فهناك من يرجعه إلى القرن التاسع عشر عبر مؤثرات كالحكم المصري وارتباط فلسطين بالاقتصاد العالمي، إضافة إلى كثافة الحضور الأجنبي عبر الإرساليات المسيحية أو الدراسات التوراتية وصولاً إلى بواكير الاستيطان الصهيوني.

لكن هذه البقعة الجغرافية التي كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية والعالم الإسلامي، تملك قدراً من الحدود الطبيعية، فهذه الأرض التي لها شكل سكين، مفصولة عن شرق الأردن بالنهر ووادي عربة، وعن مصر بصحراء سيناء وعن سورية ببحيرة طبرية، ورغم التداخل الجغرافي مع مناطق جنوب لبنان الوعرة بين جبل الجرمق وجبل عامل، إلا أن شيئاً كالاختلاف المذهبي بين جنوب لبنان وشمال فلسطين، خلق أنماطاً اجتماعية متغايرة. إلا أن هذه الصيغة الجغرافية لم تعن اختلافاً عن طبيعة البلدان المجاورة وعن أنماطها الإنتاجية، كما  لم تعن في وقت من الأوقات انفصالاً بشرياً وحضارياً خصوصاً عن بلاد الشام.

فلسطين التي نعرفها لم تتخذ شكلاً إدارياً إلا مع الانتداب البريطاني، فقد كانت على الدوام مقسمة بين ولايات الدولة العثمانية والدول الإسلامية التي توالت على الشرق العربي، التحدي الاستعماري خلق القاعدة الحقيقية  لتشكل هوية وطنية فلسطينية، هذا التشكل الذي سيمر بمراحل، فمع الخطر الصهيوني الذي كان وعد بلفور أولى تجلياته الرسمية، ومع توسع الاستيطان وتزايد الهجرة اليهودية، ومع شعور الفلسطينيين أن المشروع الصهيوني يستهدفهم وحدهم ويستهدف أرضهم التي توضحت حدودها، تبلورت هوية قد تكون ذات طابع دفاعي في البداية، ورغم المساهمة العربية في النضالات الفلسطينية، إلا أن الخطر الصهيوني الملموس حول فلاحين من هذه الأرض، ربما لم يكونوا يدركون أبعاد قضيتهم ومكانهم في هذا العالم، إلى منتمين إلى هوية وطنية جامعة تلغي الفوارق الاجتماعية، بحيث أن الوعي الوطني لم يعد مقتصراً على النخب المدينية.

نكبة 1948 حولت الفلسطينيين إلى لاجئين، تم التركيز على البعد الإنساني لقضيتهم، وصدمة الكارثة ومحاولة الفلسطينيين استيعاب ما حل بهم أخرت التجلي الحديث للهوية الفلسطينية، وأتى تصاعد الخطاب القومي العربي ليجعل من قضية فلسطين قضية عربية، ومن هذه الحاضنة نشأت منظمة التحرير الفلسطينية، لكن انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة وهزيمة 67 والدور الذي لعبه قائد كياسر عرفات أعاد وضع قضية فلسطين على الطاولة، كقضية تخص الفلسطينيين، تحول اللاجئ إلى فدائي، واكتسب المخيم دلالات جديدة، لكن هذه التحولات قادت أيضاً إلى نسيان الداخل الفلسطيني، وتركيز ثقل العمل الفلسطيني في الشتات، وأتت الانتفاضة الأولى 1987 لتعيد اكتشاف الداخل، ولتعيد له مركز الثقل، بالمقابل يأتي نشاط حركة العودة الحالي في الشتات، ليعيد ربط أجزاء الشعب الفلسطيني، كما  أن بروز خطاب الهوية الفلسطينية لدى عرب 48 يؤكد على الوحدة الموضوعية لهذا الشعب، بغض النظر عن حسابات السياسة وتغيراتها.

"لم تذهب منافينا سدى" يقول محمود درويش، لقد عبر الشعب الفلسطيني عن أقصى درجات حيويته بأثر تجربة النكبة والشتات،  هذه التجربة التاريخية المرة فجرت طاقات الشعب، ويُرى ذلك واضحاً من خلال حضور الفلسطينيين في مختلف مناحي الإنتاج الحضاري حول العالم، لقد صلّبت الصدمة شعباً بدأ معظم أفراده من الصفر في مواطن اللجوء.  أثبت الفلسطينيون قدرتهم على البقاء، والبقاء كفلسطينيين، النكبة خلقت التأثير لتزداد الهوية الفلسطينية تماسكاً ووعياً، وفي ذكراها الستين، ورغم وصول الأداء السياسي الفلسطيني إلى دركٍ مزرٍ، إلا أن النضالات الفلسطينية المستقلة، المدنية والحضارية تبدو اليوم أكثر تمرساً وحنكة وأعمق ثقافة.