النكبــة فــي الســينما: وثائـق وتسـجيلات بانتظـار الأفلمـة الروائيـة
على الرغم من مرور أكثر من 800 فيلم سينمائي ومئات المخرجين من جنسيات مختلفة على فلسطين وقضيتها منذ عام 1948م إلى الآن، إلا أن حضور النكبة في السينما لم يتعد حضورها في الذاكرة العربية أي مبتوراً ناقصاً، ولم تستطع بكرات الأفلام على طولها أن تكون جسراً يعبر هذا الحدث المرحلة ويتعداه إلى منابعه الأولى ليكشف سيرورته كلها بتفاصيله الإنسانية والاجتماعية والمكانية، واكتفت هذه الأفلام بأن تكون حبلاً بنهاية مفتوحة مشدوداً ببدايته إلى عام 1948م، ولذلك فيما عدا استثناءات قليلة لم تكن النكبة إلا لحظة تبتدئ من عندها الحكايا، أو خلفية زمانية لأحداث أخرى لا علاقة لها بهذا الحدث، فبعد النكبة بأسابيع ظهر في مصر فيلم «فتاة من فلسطين» لمحمود ذو الفقار كأول فيلم عربي ترد فيه فلسطين وما جرى فيها، وقصة الفيلم لا تتعدى قصة حب بين فتاة فلسطينية وطيار مصري تسقط طائرته في حرب 1948، التي تغيب بعدها فوراً لصالح حكاية الحب التي تنقل الحدث إلى مكان آخر في مصر.
وهذا شأن كثير من الأفلام التي تستعير قصصاً فرعية عن النكبة وإفرازاتها من تشريد ولجوء وضياع مكان وأسلحة فاسدة وغيرها لتوشح بها قصتها الأساسية كما حدث لاحقاً على سبيل المثال في فيلمي «الترحال» لريمون بطرس و«القبطان» لسيد سعيد، مع استثناءات قليلة إحداها فيلم «الأقدار الدامية» لخيري بشارة فهو يستحضر النكبة بشكل أعمق هذه المرة من خلال التقابل بين أحداث ونتائج النكبة من جهة والتغيرات التي أصابت المجتمع المصري من جهة أخرى، فالأسلحة الفاسدة تصبح معادلاً موضوعياً للقيم الفاسدة التي نخرت بنية المجتمع وحياة إنسانه.
مع انطلاقة الكفاح المسلح استعيدت النكبة كلحظة حسم ينبغي مغادرتها باتجاه المقاومة وشعارات تحرير الأرض والعودة فكانت النكبة امتداد مقاوم يبدأ مع الراهن ويمضي إلى بدايته الأخرى في 1948، فنجد في هذه النوعية من الأفلام صورة الفدائي المقاوم واستعيدت فيها معارك المقاومة بين الأهالي والعصابات الصهيونية مما أدى إلى طغيان الشعار والخطابية مقابل امتصاص وخفوت النبض الإنساني للحظة الدرامية لأبعد حد، وهذا ما وقع لفيلم «عائد إلى حيفا» الذي أنجزه المخرج العراقي قاسم حول عن رواية كنفاني الشهيرة فأتى الفيلم باهت الصورة ثقيل الحركة خالياً من نبض الحياة ولم يخرج توءمه فيلم «المتبقي» للإيراني سيف الله داد عن الرواية نفسها عن المعالجة التي تقسر صورة المجتمع الفلسطيني وما أصابه.
وليس غريباً مع أحادية النظرة هذه تجاه النكبة كحدث تاريخي وتأريخي مهم ويشكل محطة رصد أساسية في تاريخنا أن تقترب منه كاميرات التوثيق والتسجيل وتحاول أن تقدم شهادة حية على ما حدث بعيون العدسة.
وربما لحسن الحظ السينمائي والتاريخي أن يتواجد سينمائي فلسطيني عراقي الهوية اسمه قيس الزبيدي مؤمن حتى الحلم بالسينما وبفلسطين ويكون هاجسه الفني تأريخ القضية سينمائياً، فالأفلام الوثائقية والتسجيلية التي قدمها هذا المخرج تعتبر بحق من أنضج الصور وأكثرها وعياً باللحظة التاريخية للنكبة قبلها وبعدها، ففيلمه «فلسطين.. سجل شعب» يكاد يكون وثيقة حيّة لتاريخ فلسطين في القرن العشرين، فالأحداث والأمكنة والأشخاص موجودون عبر شهادات وصور ووثائق كل هذا ضمن صياغة بصرية جميلة يستحقها هذا الحدث وهذا التاريخ.
وهذا الهاجس الذي تملك الزبيدي لم يسلم منه آخرون كثر ومنهم الممثل الشهير محمد البكري الذي حاول إعادة بناء الذاكرة الفلسطينية للتعرف على ما جرى ولماذا جرى وكيف جرى بتصويره ساعات مطولة من الحوارات والشهادات التي قدمها في فيلمه «1948» معتمداً على جمع نثار هذه الذاكرة المتعلقة بأحداث النكبة وصوغها بقالب فني محكم البناء ومحاولة تقديم روايات بصرية وشفوية جديدة من الأحداث التي وقعت في التاريخ الفلسطيني.
مع ظهور الجيل الجديد من السينمائيين وخاصة من أهل الداخل أخذت تبرز زوايا نظر جديدة لم تعتدها الكاميرا الفلسطينية فتراجعت إلى حد كبير صورة الفدائي لتحل محلها صورة الإنسان الفلسطيني بأحلامه ومعاناته وهمومه اليومية مما فتح الباب لإعادة إنتاج مرحلة النكبة بشكل مختلف وجديد بنبض أكثر واقعية وإن كان بأدوات السينما الوثائقية والتسجيلية، فدشن فيلم «الذاكرة الخصبة» لميشيل خليفي و«معلول تحتفل بدمارها» لخليفي أيضاً هذه المرحلة السينمائية الجديدة والتي سار فيها آخرون مثل المخرج الفلسطيني نزار حسن الذي قدم فيلم «أسطورة» الذي يحكي عن الذاكرة الفلسطينية إبان النكبة.
وعلى الرغم من وجود مجموعات سينمائية نشطة خاصة في الداخل الفلسطيني ترصد الواقع والتاريخ الفلسطيني إلا أن الحاجة لمغامرة روائية سينمائية تتناول مرحلة النكبة ما زالت قائمة خاصة مع ثبات إمكانية ذلك بعد التجربة الدرامية لوليد سيف وحاتم علي اللذين قدما معاً سيرة المرحلة تلفزيونياً بنبض درامي رائع في المسلسل ذائع الصيت والرائع أيضاً «التغريبة الفلسطينية».