عشرة أعوام على رحيله نزار قباني: الحواس الخمس هي النوافذ التي تدخل منها شمس الشعر
بعد عشرة أعوام على غيابه، مايزال نزار قباني حاضراً كظاهرة عابرة للأجيال، وكشخصية ثقافية مثيرة للجدل، وأيضاً كشاعر استثنائيّ بكلّ المقاييس.
استعادة هذا الكبير تبدو باهتة، عادية، ما لم تكن بصوته هو، بحنانه ورقته، بغضبه ونزقه، كما عرفه (الشعب)، وأركز على هذه الكلمة بإلحاح لأنه شاعر وجدانه وأحلامه وممثل صوته في برلمان الحرية. لذا سأعود إلى واحد من أبدع وأجل الحوارات التي أجراها طول تجربته، وكانت مجلة «الكرمل» قد نشرته في العدد (28) الصادر عام(1988).. تكمن أهمية هذا الحوار أولاً في أسماء موقعي الأسئلة، هم الشعراء: سليم بركات، محمد شمس الدين، بسام حجار.. والروائيان: علوية صبح ومحمد أبو سمرا، هذا من جانب. ولكونه (الحوار) يشكل صيغة أكثر شمولية مما تمثله الذائقة الواحدة، ولتمثيله وجهات نظر شعراء وكتاب من جيل لاحق على جيل قباني، ولصراحة الأسئلة واتساع بيكارها، من جانب آخر.
يقول سليم بركات في المقدمة، تحت عنوان «حكاية هذا الحوار»: «كتبنا الأسئلة، وحملتها إليه قبل ستة أعوام. أخذ على نفسه وعداً بتسليم أجوبته في أسبوع، فحطم الإسمنت الذي تطاير، في انفجار مجنون، وعده. لقد قضت زوجته بلقيس في لعبة التناحر العمياء. فلم أعد إليه إجلالاً لألمه. لكن الوقت داهمنا بحصار إسرائيلي لبيروت، فيما بعد، بفترة لم يكن ألمه أعاد إلي شجاعة سؤاله، كصديق، عن أسطرٍ من كلام مكتوبٍ، فإذا بي أذكره بعد سنين ـ هو في منفى وأنا في منفى ـ فيداهمني بأجوبته، بعد أن زار أوراقه في بيروت زيارة قصيرة مدوناً في رسالته المرفقة: (حدثت المعجزة، ووجدت أسئلتك التي وجهتها إلي في نهاية القرن العاشر للهجرة)..»
يقول صاحب «الرسم بالكلمات» معرفاً عن نفسه: «إنّ جواز السفر الذي استعمله ليس عليه صورة، ولا أختام، ولا تأشيرات، ومع ذلك فإن صالات الشرق تفتح لي في كل مطارات العالم، لا بصفتي جنرالاً من جنرالات الحرب، أو خبيراً من خبراء الأسلحة، ولا بصفتي خبيراً من خبراء الأسلحة، ولكن بصفتي خبيراً بقلب الإنسان».
وحول السؤال عن كتابته المستمرة، وعودته الدائمة، إلى القصيدة العمودية، لتقديم شهادة في حدث ما، أو التعليق عليه، وما مدى فرض القول العام شكلاً مسبقاً للكتابة، يجيب «القصيدة العمودية ثوب من الأثواب موجود في خزانتي، مثل جميع الأثواب. لا أحد يرغمني على ارتدائه، ولا أحد يرغمني على بيعه في المزاد العلني. إنها موجودة جنباً إلى جنبٍ مع قصيدة التفعيلة، والقصيدة الدائرية، وقصيدة النثر، كما توجد بدلة السموكن إلى جانب العباءة، وبدلة الفراك إلى جانب الدشداشة، والقنباز إلى جانب بنطلون الجينز، والطربوش إلى الجانب البيريه، والعمامة إلى جانب المايوه»
في سؤال تالٍ، يُستفز الشاعر إلى درجة تكاد تسمع فيها صراخه على الورق، يقول السؤال حرفياً: «الالتباس الذي يسود الكتابة الواحدة، ليس نتاج اللغة كمعطى، بل يتعدى اللغة إلى نسيجها الدلالي. فقصائد المعاني، وقصائد المضامين، وحتى قصائد الحكاية (المشاغبة) تظل في المناحات المعنوية للقصيدة الكلاسيكية نفسها، أي: أنّ الكلام الذي يتنوع في قصيدتك، على صعيد المفردة، الجملة، يخضع لنسق جمالي سابق له. ويظل ـ تالياًـ كلاماً قابلاً للمعنى الشامل، لأيّ معنى وربما التشابه» ورداً على هذا يقول: «لا أفهم إلى أين تريدون الذهاب في سؤالكم التعجيزي هل تريدون القول إنني لم آت بجديد في خطابي الشعري، وإنني صورة منسوخة بالكاربون لعنترة العبسي، والشنفرى، وعمرو بن كلثوم، جرير، والفرزدق؟ ثم، هل تريدون القول إن المفردة عندي لا تزال نجدية، حجازية، صحراوية، وإن المعاني والصور عندي وبالتالي، هل تريدون القول إن جميع الثياب التي لبستها خلال أربعين عاماُ كانت ملابس مستعملة، وإن كل القماش الذي استعملته كان من وبر الجمل، وإني لا أزال أربط ناقتي على باب فندق دورشستر في لندن؟»
وعن تصوره للشيخوخة، ومتى يمكنه أن يتقاعد أدبياُ، وما تصوره لحياة المتقاعد الذي سيكونه، يجيب «بالنسبة لي هناك شيخوختان. شيخوخة الجسد، وشيخوخة الكتابة. أما شيخوخة الجسد فهي حالة كيميائية تتعرض لها كل الكائنات الحية، بغير استثناء، وقانون يطاول الجميع. وشيخوخة الكتابة هي التي تتيبس فيها الأصابع، ويتخشب فيها القلب، وتتحول ورقة الكتابة إلى ضريح، هذه الشيخوخة التي تخيفني».. «أما كيف سأقضي حياة المتقاعد، فإنني لا أعرف أن ألعب الورق، ولا الشطرنج، ولا الدومنيو، ولا البلياردو، لذلك فلن أكون متقاعداً كلاسيكياً يشرب القرفة واليانسون في نادي المتقاعدين. إنني أتصور أنني سأبقى كالهولندي الطائر مبحراً فوق سفينة لا تعرف إلى أين، حتى تأكلني الأسماك».
وعندما يسألونه عن خلو شعره من هاجس الموت، وإقامة علاقته مع اللذة والحب يقول:«عندما أكون في فراش واحد مع حبيبتي، فلماذا أسمح للموت أن يندس تحت شراشفي؟ إن سرير الحب لا يتسع أبداً لثلاثة أشخاص»..«الشهوة غايتها الأولى هي حفظ السلالة، أما الموت فهو مثل حبوب منع الحمل، قاطع لجميع السلالات» وعن كونه شاعراً حسياً فمعادلته هي: «الحواس الخمس هي النوافذ التي تدخل منها شمس الشعر».
وكشاعر جماهيري، شديد الرواج، فذلك يعني لديه «رواج الشاعر يعني أنه ولود، وعزلته تعني أنه عاقر».
أما لماذا ظل على مقربة حذرة من مجلة «شعر» والتيارات الموازية لها، مع أنه رافق مسيرتها، فإنه يرى: «مجلة (شعر) كانت مثل هونغ كونغ، دخل إليها تجار محترمون، ودخل إليها مغامرون، ودخل إليها مهربون. وبرغم (التجاوزات) و(الزعرنة) التي حصلت، إلا أن مجلة «شعر» تبقى أجمل سفينة أبحرت في حياتنا الثقافية. ولقد سبق لي أن قلت في حفلة تكريم يوسف الخال، في لندن، إن يوسف كان قبطاناً لسفينة، وأنه ليس مسؤولاً عن سكر البحارة، وعربدتهم، وعن قناني البيرة الفارغة التي تركوها على ظهر السفينة»
أما عن قصيدة النثر: «أجمل بنت أنجبتها مجلة «الشعر»، وإذا لم تتزوج حتى الآن، فلأن العرسان العرب لا يجبون البنات اللواتي يلبسنّ الجينز، ويدخنّ سجائر المالبورو، وبيدهن العصمة»
■ عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.