محمد سامي الكيال محمد سامي الكيال

تراث مأساة ابن المقفَّع

قد لا نفي ابن المقفع حقه إذا اعتبرناه مجرد أديب ومفكر مشهور عاش في آواخر العصر الأموي وبدايات العصر العباسي، لأن إسهامته الفكرية خولته لتبوؤ مكانة مركزية في التراث العربي، فهو صاحب أول مشروع ثقافي متكامل، وأول نموذج عن المثقفين الموسوعيين الذين ساهموا في صناعة فترة التنوير والازدهار الحضاري في تاريخ الحضارة الإسلامية.

وبالانطلاق من إطلاعه الواسع على الثقافات السابقة لظهور الاسلام (الفارسية والهندية واليونانية) بدأ ابن المقفع مشروعه الثقافي الكبير بتوسيع أفق الحضارة الإسلامية من خلال رفدها بعصارة الإنتاج الحضاري للأمم السابقة بشكل منهجي ومنظم، فكان من أهم المؤسسين لقواعد وأساليب النثر الأدبي العربي، ومن أبرز من ساهموا في تعريف المفكرين العرب على الفكر والمنطق اليونانيين، هذا فضلاً عن دوره الكبير في وضع أسس جديدة للفكر السياسي في التاريخ الاسلامي.

ومع ذلك الاتساع الكبير لأفقه الفكري والثقافي أدرك ابن المقفع تمام الإدراك الشرط التاريخي الذي كان عليه أن يعمل ضمنه، فقد عبَّر في كتاباته عن فهمه للتمفصل الحتمي بين مشروع بأهمية مشروعه وبين السلطة السياسية بأدواتها وآلياتها المتعددة، فكان من المحتَّم عليه أن يدمج مشروعه في سيرورة توطد السلطة الإسلامية وتبلور مؤسساتها المتعددة والتي كانت بحاجة ماسة للدعم المعرفي من المثقفين، كما كان المثقفون بحاجة إليها لتحقيق مشاريعهم على أرض الواقع. 

لم يكن ابن المقفع سعيدا جدا بذلك الواقع المفروض عليه كمثقف، بل اعتبره بلاءً وشرا لابد منه، وكان مدركا للمخاطر المحتملة لتلك العلاقة مع السلطة وهو الذي رأى المصير الذي انتهى إليه زميله عبد الحميد الكاتب الذي راح ضحيةً للصراع الدامي الذي أفضى إلى نهاية الخلافة الأموية وقيام الخلافة العباسية، فحاول ابن المقفع من خلال عمله في الدواوين الرسمية للدولة العباسية أن يضع الأساس الأولي لجهاز إداري- معرفي ذي طابع تكنوقراطي بحت يملك استقلالاً نسبياً عن التقلبات السياسية وصراعات الحكَّام، وأن يساهم في إنشاء دولة ذات طابع مؤسساتي لا تتأثر بأمزجة وأهواء السلاطين.

إلا أن الظروف لم تكن قد نضجت في ذلك العصر نضجاً كافياً لكي تتفهم مشروع ابن المقفع، فعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي كان الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور يبذلها في سبيل توطيد أركان دولته وإقامتها على أسس راسخة، فإن  بنية الدولة كانت ماتزال بعيدةً جداً عن أن تصل إلى نموذج مشابه للنموذج الذي خطط له ابن المقفع، فكان استيعاب ذلك المثقف السابق لعصره مايزال عسيراً عليها.

وهكذا نصل إلى الفصل الختامي من حياة ابن المقفع القصيرة والحافلة، فبعد انتهاء عصيان عبد الله بن علي عم الخليفة المنصور، كُلِّف ابن المقفع بوضع صيغة عهد الأمان الذي أراد المنصور أن يعطيه لعمه، وقد أراد ابن المقفع ان يغَّلظ من شروط ذلك العهد بحيث لايستطيع المنصور أن يخرقه في يوم من الأيام، فجاءت بنوده ثقيلة الوطأة على المنصور ومؤذية لغروره الشخصي، مماجعله يكن الحقد لابن المقفع ويأذن لواليه على البصرة سفيان بن معاوية بالتخلص منه في أقرب فرصة، وهكذا استدعي ابن المقفع إلى مجلس الوالي وتمت تصفيته بطريقة متوحشة لم يشهد لها التاريخ الإسلامي مثيلاً.

لم ينته مشروع ابن المقفع بنهاية صاحبه، فقد استمرت الأطر الثقافية التي وضعها حية وفعالة من بعده، وواصل العديد من الأدباء والمفكرين والفلاسفة عمله على مدى فترة الازدهار الحضاري الإسلامي، وإن بقيت مأساة ذلك الرائد العظيم ماثلة في أذهان كل من فكر بأن يمضي على طريقه الصعب والشائك.   

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على الأربعاء, 02 تشرين2/نوفمبر 2016 08:27