في متاهة النقد...الخاصرة المستعدة لتحدي الخنجر
إن ضيق البعض بالنقد البناء وانفعالهم عندما يسمعون أية كلمة فيها رائحة نقدية هو برهان قاطع على خوفهم من أن يصابوا برذاذ ودليل لا يقبل الدحض على تربية متزمتة لا تتقبل الاستماع لأي رأي مخالف لأنه أي صاحب الرأي المخالف.حسب رأيهم: هو حليف الشيطان وعدو موصوف حتى لو أتى بثياب صديق هذا ما كان يقول به كهنة القرون الوسطى ووعاظ عصور الظلام.
فالنقد كما يعتقد هؤلاء وأمثالهم في حالنا الراهن المتربعون في المفاصل الرئيسية الحساسة ما هو إلا هرطقة وتهجم مستور وتجريح مبطن يأتي لأسباب وضيعة وهدف انتقامي أو إزاحي من أناس تأبى نفسيتهم إلا أن تعكر صفو بعض هؤلاء المسؤولين المخلصين جداً جداً وتعيق نشاطهم وتربك عملهم.
وهذا الرأي السلبي بالنقد المضاد لكل ما يقول به علماء الاجتماع والفكر النقدي القوة الجبارة التي تكشف نقاط الخلل في المجتمع بالنهضة لم تأت إلا بفضل الأفكار النقدية التي أبدعها مفكرو النهضة وعصر الأنوار، والذي يخاف النقد ويحاول قمعه هو الذي يخاف مراقبة الناس لممارسته الخفية ويفضل العمل في الظلام ليعمي الأبصار عن كل خلل وفساد يقوم به.
والنقد هو الطلقة الصائبة التي تصيب الهدف بدقة متناهية وتحقق الغاية فرؤية الإنسان لأخطائه تساعده على البحث عن أسبابها وظروف ولادتها ومعالجتها والتخلص منها إلى الأبد.
ويقول عالم التربية المشهور جون ديون: «النقد أكبر مساعدة نقدمها للمخطئ لمساعدته على التخلص من أخطائه.
إليكم هذه القصة الطريفة التي جرت معي وخلاصتها؛ منذ عدة أشهر أصدرت كتابي الثالث «قاموس الفساد» الذي تحدثت فيه عن دور المثقفين في محاربة ظواهر الفساد التي انتشرت في السنوات الأخيرة على نطاق واسع، وتحولت إلى جائحة خطيرة تهدد الوطن من الداخل وهي توازي خطر العدو المتربص على الحدود وقلت إن المثقف الذي لا ينتبه إلى الأخطار المحدقة يتحول إلى حارس أمين على ظاهرة الفساد وبوق من أبواقها علماً بأنه من المفترض أن يكون الترجمان الصادق لمعاناة الناس اليومية والمعبر الأمين عن آمالهم وتطلعاتهم والمتحدث بلسانهم وقلت إن الحياد بين الحق والباطل جريمة بحق الوطن ثم طرحت مجموعة من الأسئلة.
لماذا في هذه الأيام يسيطر اليأس على النخبة الأكثر وعياً في المجتمع ويغرق البعض بمشاعر اليأس واللامبالاة وعدم الاكتراث؟ ولماذا صار عمل البعض التعيش على موائد الكبار بينما راح البعض الآخر يغادر وطنه غير آبه بكل ما يجري؟! وأضفت إن المثقف العربي الذي يمسك العصا من وسطها بينما يرى الأخطار تحدق بوطنه هو شريك فعلي في دعم الباطل، فالمثقف الحر هو الخاصرة المستعدة لتحدي الخنجر، ولا قيمة لكاتب مهمته التبخير والتدليس وكأنه سمسار في سوق النخاسة. فالكلمة الحرة الصادقة تفعل المعجزات وتنير الدروب لأبناء الوطن وتشعل الحرائق وهي التي أخرجت البشرية كلها وخاصة المجتمع الأوروبي من ظلام القرون الوسطى وخلصتهم من الجهل والخرافة فلولا صرخات مارتن لوثر وفولتير وجان جاك روسو لبقينا حتى اليوم نعيش على الخرافات والأساطير.
هذه بعض الأفكار الواردة في كتاب قاموس الفساد الذي طرحته في المكتبات وقيل لي يومها إن اتحاد الكتاب العرب يشتري بعض النسخ من كل كتاب بهدف تشجيع الكاتب وتخفيف عبء التكاليف عنه فتقدمت بطلب وأرفقته بنسخة من الكتاب إلى الاتحاد، ولما وصلت إلى مكتب أحد المسؤولين وقدمت نفسي على أنني صاحب كتاب «قاموس الفساد» نهض من وراء الطاولة وصرخ بوجهي قائلاً: ما هذا الذي تكتبه في كتابك؟ هل يوجد عندنا فساد ونفاق ورشاوى وتهرب ضريبي كما تقول؟ إن نظامنا الوطني لا يمكن أن يكون بهذه الصورة المشوهة!.. وعندما انتهى قلت له: أريد أن أسألك يا دكتور هل تنتقد ابنك عندما يخطئ وهل تأخذ بيده؟ إن من ينتقد السلبيات ليس قصده تشويه صورة الوطن وإنما هدفه إزالة التشوهات من الصورة بالنقد الموضوعي البناء فالأخطاء عندما تتراكم تصبح أكثر خطراً على الوطن من جنود العدو المتربص على الحدود.
ولكنه قاطعني بعصبية قائلاً: من سمح لك بطباعة الكتاب وأين موافقة وزارة الإعلام؟ فقلت له الموافقة موجودة ولا يمكنني طبع الكتاب وتوزيعه دون الموافقة فقال بعد أن خفت حدة لهجته أين نسختي فناولته النسخة بعد أن كتبت عليها الإهداء. وبصوت مرتفع قال: لن نشتري منك سوى نسختين بسبب وضعنا المالي وضيق المكان في مستودعاتنا وكذلك بسبب بعض الظروف، فأجبته: إنني أقدم لكم جزيل الشكر وسأقدم لكم نسختين هدية ودون نقود وخرجت من عنده في قمة الانفعال المكبوت وقيل لي يومها في مبنى اتحاد الكتاب إن دفع الفاتورة سيأتي فيما بعد ولم أفهم المقصود ولكنني بعد أن قدمت طلب انتساب للاتحاد مع نسخ من كتبي الثلاثة «جذور الأزمة» «معايير الديمقراطية» «قاموس الفساد»، جاءتني الفاتورة بعد ستة أشهر وهذا نصها: لدى اطلاع لجنة التزكية على إنتاجكم المقدم لنيل صفة مرشح لعضوية اتحاد الكتاب العرب قررت اللجنة عدم الموافقة على تزكية طلبكم، ولهذا لا نتمكن من عرضه على لجنة القراءة المختصة، وتفضلوا بقبول فائق التحية والاحترام.
وبعد اطلاعي على الفاتورة جيداً ودراسة الظروف الذاتية والموضوعية قررت بقناعة كاملة أن لا أقدم مستقبلاً أي طلب للانتساب لاتحادكم الموقر حتى تصبح الظروف الذاتية والموضوعية ملائمة جداً وحتى تتولد عندي القناعة الكاملة بأن ممارسة النقد البناء ليست ملائمة في هذه المرحلة بالذات ولا أدري متى تتولد عندي مثل هذه القناعة.
وحتى أوافق معكم على عدم ممارسة أي نقد وهذه القناعة لن تتولد أبداً ولن أتوقف عن ممارسة النقد ما دمت حياً أرزق وتفضلوا بقبول فائق احترامي سيدي.