من التراث الكندي وتجار الدين
حمل الكندي عن استحقاق لقب «فيلسوف العرب»، فهو أول عربي اشتغل بالفلسفة وعمل على نشرها في الأوساط الفكرية والثقافية العربية الإسلامية، باذلاً في سبيل ذلك الكثير من الجهود الجبارة: من تعريف بأعمال كبار الفلاسفة اليونانيين، وإصلاح ترجماتها إلى اللغة العربية، وشرح ما غمض من معانيها ومصطلحاتها. وبذلك كانت مساعيه حجر الأساس الذي أقام عليه الفلاسفة اللاحقون الصرح الشامخ للفلسفة العربية الإسلامية.
وعلى الرغم من أن الكندي عاش في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية، وفي الفترة التي ساد فيها فكر المعتزلة العقلاني ليصبح المذهب الرسمي للدولة العباسية، وعلى الرغم من تمتعه برعاية ودعم الخلفاء العباسيين: المأمون والمعتصم، فإن كل ذلك لم يقه من تهجمات القوى الظلامية والسلفية التي طعنت فيه وفي الفلسفة بشكل عام، باعتبارها بدع الوثنيين التي تخالف العقيدة الإسلامية وتدفع الإنسان إلى النظر والتفكير في أمور حرم الشرع التفكير بها، وهكذا كان على الكندي أن يخوض معارك مريرة للدفاع عن الفلسفة والنظر العقلي وإثبات ضرورتهما واهميتهما.
ففي رسالته الشهيرة «في الفلسفة الأولى» يورد الكندي مجموعة من الإثباتات والبراهين على ضرورة الفلسفة، ثم يؤكد أنه لا يمكن لأحد أن يبدي رفضه لها إلا إذا أورد حججاً وبراهين عقلية على بطلانها، وبالتالي فالأولى بخصوم الفلسفة أن يتعلموها ويدرسوا طرائقها ومناهجها بتعمق قبل أن يرفضوها، لكي يستطيعوا على الأقل بالاستعانة بمناهجها البرهانية أن يعللوا رفضهم لها بشكل عقلي. وهكذا فإن الكندي قام بمحاولة بارعة لنقل النقاش حول الفلسفة من ميدان الفتاوى التكفيرية إلى ميدان الفلسفة نفسه، مادام رفض الفلسفة هو بحد ذاته فلسفة!!!
ولم يكتف الكندي بذلك بل دافع عن مبدأ وحدة الفكر الإنساني وتراكم المعرفة البشرية عبر الأزمنة والحضارات، فليس من حق أحد أن يدعي لنفسه أو لحضارته احتكار الحقيقة المطلقة وأن يرمي بقية الأجيال والحضارات بالضلالة، لأن مفكري كل أمة من الأمم حصَّلوا قسطا من المعرفة والحقيقة التي بتراكمها وتلاقحها يمكن للإنسان أن يقترب تدريجيا من المعرفة الحقة. ومن أقواله المهمة في هذا الصدد: «ينبغي لنا أن لا نستحي من استحسان الحق وإقتناء الحق من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية عنا، والأمم المباينة، فإنه لاشيء أولى بطالب الحق من الحق.... ولا أحد يبخس بالحق، بل كلٌ يشرفه الحق»
ثم يفسر الكندي سبب تلك الموجة الكبيرة من معاداة العقلانية والفلسفة، فهو يرى أن رجال الدين الظلاميين ممن «تتوجوا بتيجان الحق من غير استحقاق» يتهمون مخالفيهم من المفكرين والفلاسفة بالكفر والزندقة لكي تخلو لهم الأجواء ويفرضوا سيطرتهم على الناس وليجعلوا الدين تجارة يحتكرونها لأنفسهم، فسيادة الفكر الظلامي ضرورية لاستتباب سلطتهم والمحافظة على مصالحهم ومكتسباتهم المادية والمعنوية، وبالمحصلة فهم يستشرسون في عدائهم للفكر الحر «لضيق فطنهم عن أساليب الحق، وقلة معرفتهم بما يستحق ذو الجلالة في الرأي والاجتهاد في الانفاع العامة الكل، الشاملة لهم.. ووضعهم ذوي الفضائل الإنسانية- التي قصروا عن نيلها وكانوا منها في الأطراف الشاسعة- لموضع الاعداء الحربية الواترة، ذبا عن كراسيهم المزورة التي نصبوها من غير استحقاق، بل للترؤس والتجارة، وهم عدماء الدين. لأن من تجر شيئا باعه، ومن باع شيئا لم يكن له، فمن تجر بالدين لم يكن له دين، ويحق أن يتعرى من الدين من عاند قنية علم الأشياء بحقائقها (أي الفلسفة) وسماه كفرا»
كان هذا جزءً من دفاع «فيلسوف العرب» عن العقل والعقلانية، ولكن رغم ذلك فإن هذا الرائد التنويري العظيم لم يسلم من الملاحقة والإضطهاد وخاصة بعد استلام الخليفة المتوكل مقاليد السلطة، وهو الخليفة الذي حارب الفكر التنويري ونكب المعتزلة والفلاسفة وغيرهم من العقلانيين، ولذلك لم تصلنا من مؤلفات الكندي العديدة إلا شذرات قليلة، ليكون له بذلك نصيب من مأساة المثقف العربي التنويري التي مازلنا نعيشها حتى الآن.
ملاحظة: كل الاستشهادات الواردة هنا هي من «كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى»
■ محمد سامي الكيال