غني لنا حتى وإن كنا غائبين
ستمنعنا ظروفنا فيروز.. أن نقول لك بنظرات عيوننا ونبض قلوبنا: أهلاً بعودتك إلينا... لقد أطلت الغياب..
نحن الذين أنت منا ولنا، سنضطر وأنت تشعّين سنا وألوهية على خشبة دار الأوبرا، أن ندوّر أجهزة التسجيل أو الحواسب، أو نفتش في الإذاعات عن صوتك السماوي، ونتخيل أن «زمرد» الجريئة الخارجة عن قانون الوالي الذي ينام الشهر كله ولا يستيقظ إلا عند اكتمال القمر، تغني لنا..
سيتخيل كل منا أنه يسلّم عليك، ويقبّل يدك، ويشرح لك كم ساهمتِ في تشكيل روحه ووجدانه.. وسيبقى الحلم حلماً..
بينما سيجلس الكبراء والمنعمّون وأصحاب المقامات الرفيعة والدبلوماسيون بملابسهم الإيطالية وعطورهم الفرنسية في الصفوف الأولى، يليهم التابعون وتابعوهم والمستزلمون لهم، ثم «الفنانون» وأقاربهم، وكبار الإعلاميين وأهليهم، وسيدات المجتمع المخملي وخادماتهم، وكذلك كبار الموظفين ومدراء مكاتبهم.. و..إلخ..
ولم لا؟ فهي فرصة نادرة لإثبات الصلة بالفن الراقي وتحسسه وتذوقه، وإثبات الحضور الاجتماعي بين السادة، حتى وإن كان الكثير من هؤلاء سيتوجهون بعد انتهاء العرض – المناسبة الثمينة، إلى أقرب مربع ليلي لإكمال السهرة بالشكل الاعتيادي، أي على إيقاعات وأنغام الأغاني المعولمة و«فقشات» و«خلوعات» الراقصات المستوردات..
هل تعلمين يا فيروز أن الـ 2000 ليرة سورية، وهي الحد الأدنى المطلوب لدخول أحد العروض الستة، تساوي نصف رواتب البعض منا؟
وهل تعلمين أن الحد الأعلى أي الـ10000 ليرة سورية تزيد راتب مهندس أو صحفي أو معلم عتيق؟..
أمانة الاحتفالية التي دعتك فلبيتِ النداء، كانت تعلم وهي تسطّر أسعار البطاقات أن الأغلبية الساحقة، بل المسحوقة، من عشاقك أعجز من أن تستطيع تحقيق حلم متابعتك تجولين على المسرح مثيرة سخط الوالي، ورغم ذلك فعلت ما فعلته، بما يشبه الارتكاب.. ثم سارعت لإطلاق الحجج التي يطلقها أي مسؤول آخر.. غير ثقافي، مثبتين أنهم لا يختلفون عن أي مدير وضعته الظروف والمصادفات السعيدة فوق ظهور الناس..
لن نقول لك كما قال بعض أعداء سورية الصغار بحقدهم الأعمى وروحهم المريضة: «لا تذهبي إلى سورية»، فسورية بلدك قبل أن تكون بلدنا، ولا يستطيع أي كان أن يلوي عنق الحقيقة ويكسر الوجدان العصي والصلة الخفية، ولن نقول لك: لا تغني لهؤلاء لأن معظمهم مدّعون وكذابون ومزيفون، ولن نستعطفك كي تغني لنا في مكان أوسع من فقرنا وتهميشنا كملعب العباسيين أو ساحة الأمويين على سبيل المثال، كما أننا لن نطالبك أن تقولي باسمنا أية كلمة خارج رمزيتك المزنرة بالموسيقا الرحبانية والقصيدة الشفيفة..
كل ما نرجوه منك وأنت تنظرين في عيون المتفرجين أنت تبحثي في مكان ما في الصفوف الخلفية عن عينين دافئتين يترقرقان حباً، لتعرفي كم نحبك.. نحن الذين ليس باستطاعتنا أن نحرم من نحب من قروشنا القليلة، ونغامر بحضور عرض.. أو نصف عرض لك..
غنّي في دمشق ولدمشق يا فيروز فقد أوشكت روحها – روحنا على الجفاف، غنّي لآدميين من هذا الوطن الذي بصبرهم ما يزال، رغم كل النهب والفساد الداخلي، والخيانات والمؤامرات «الشقيقة» قادراً على الوقوف بكبرياء نادر في وجه الإعصار المتوحش الذي يعصف بالعالم..
غنّي لفقراء وشرفاء ينتمون لمعاني وجودك ورسالتك وسرّك العبقري.. غنّي.. غنّي لهم فقط.. حتى وإن كانوا غائبين..