حقيقة السلوك العنفي للكيان الإرهابي
يُتداول في الأوساط الفكرية والسياسية والإعلامية العربية رأيان لحقيقة العنف الصهيوني وأسبابه ومصادره باعتبار (إسرائيل) أصبحت أنموذجا للكيان الإرهابي تمارسه ثقافة وسلوكا يوميا، وهذان الرأيان أحدهما تقليدي يفسر الأمر بحروب يهوه وتعطشه للدماء ويعتمد أصحاب هذا الرأي وهم كثرة على مقولة أنّ (إسرائيل) هي كيان منتج للعنف بحكم طبيعته وتكوينه البنيوي..
وقد جاء في أساطير التوراة «إذا لم تطردوا سكان الأرض من أمامكم يكون الذين يستبقون، فهم أشواكاً في أعينكم ومناخس في جوانبكم، ويضايقونكم على الأرض التي أنتم ساكنون فيها». ويحاول المؤرخون (الإسرائيليون) والقادة الصهاينة استقراء التجارب الحربية من نصوص التوراة من أجل غرس روح القتال في نفوس الجنود اليهود، وبيان قدرة (إسرائيل) في الماضي والحاضر والمستقبل على شن ّالحملات الناجحة. ويؤكدون باستمرار على أن ضخامة الجيش وكثرته ليست هي العامل الأول في إحراز النجاح، بل الروح الهجومية العالية والقدرة على تحقيق المفاجأة من حيث وقت ومكان وأسلوب شن الهجوم. يقول ابن غوريون: «.. إن كل تاريخ (إسرائيل) القيّم يرويه لنا الكتاب المقدس إن هو بالدرجة الأولى إلا تاريخ (إسرائيل) العسكري. لقد حارب اليهود الأوائل الآشوريين البابليين والمصريين والعموريين والفرس والإغريق والرومان، وحين هزموا على يد فيالق تيتوس بعد معركة يائسة آثروا أن يقتلوا أنفسهم في مسعدة رمزاً لإرادتها، فاليوم يقسم الجنود يمين الولاء فوق قلعة مسعدة وهم يرددون لن تسقط مسعدة مرة أخرى» . وترسيخاً لهذا الفكر العسكري بذل المؤرخون العسكريون (الإسرائيليون) عناية جهدهم لإخراج ما أسموه بالتاريخ العسكري اليهودي، وذهبوا يربطون بين معارك العبرانيين في الماضي السحيق وحروب (إسرائيل) في الزمن الحديث ليقنعوا أنفسهم قبل غيرهم بأنهم أصحاب مهمة إلهية، إنهم يعيشون حالة حرب دائمة. والمجتمع (الإسرائيلي) ثكنة عسكرية، تُعطى فيها القيم العسكرية وعلى رأسها تمجيد القوة وتبرير العدوان المقام الأول، لكون العربي دائماً هو العدو. ووصلت ببعض الجنود الصهاينة في انتفاضة الأقصى أن يطبَعوا على قمصانهم عبارة «وُلدنا لنَقتل» «born to kill»، إنهم يشنون الحرب دائماً على الأطفال والنساء والشيوخ، ويؤمنون أن هذا جزء من واجبهم الديني، بفهمهم الخاص للدين وكيانهم مضطر ليشن بين حين وآخر الحرب على الجوار، بذرائع كثيرة، ليحقق وجوده، لأنه وجود عسكري مغتصب قاتل، ولا بد للوجود العسكري أن يمارس فعاليته لأنها جزء من كيانه وطبيعته، ولا مبرر لوجوده غير الحرب، ولذلك لا يمكنه أن يحقق السلام. وعلى النقيض من هذا الفهم التقليدي العربي للعدوانية الصهيونية يبرز أصحاب رأي مخالف تماما لمشاريع يهوه الاستيطانية فيرى الدكتور عبد الوهاب المسيري المتخصص بالشؤون اليهودية، ومؤلف كتاب «موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية» أن الصهيونية جزء من التشكيل الاستعماري الغربي، فاللوبي الصهيوني وإمكانياته الإعلامية والاقتصادية ويقول: «هي أداة الغرب الرخيصة: دولة وظيفية عميلة للولايات المتحدة تؤدي كل ما يوكل إليها من مهام، تشبه العلاقة بين بريطانيا والمستوطنين الإنجليز في روديسيا. فقوة الحركة الصهيونية تنبع من أنها تخدم المصالح الأميركية، وهكذا يجب أن يفهم سرّ سطوة الإعلام الصهيوني، وسرّ نفوذ اللوبي الصهيوني. فالحركة الصهيونية ليست جزءا من التاريخ اليهودي، ولا هي جزء من التوراة والتلمود برغم استخدام الديباجات التوراتية والتلمودية. وإنما هي جزء من تاريخ الإمبريالية الغربية، فهي الحل الاستعماري للمسألة اليهودية. وقد ظهرت في بداية الأمر بين مفكرين استعماريين غير يهود، ثم تبناها بعض المثقفين اليهود من شرق أوروبا ووسطها».
المصدر الآخر من مصادر العنف الصهيوني يشكله الأدب أحد أهم مرتكزات ومصادر الثقافة العنفية لهم، وهناك علاقة جدلية بين الأدب والفكر الاستراتيجي حيث كل منهما يتكامل ويتقاطع مع الآخر ويرفده وبنفس الوقت ينتجه ويُجمع الباحثون على أن الكتب التي تشكِّل المصادرَ الأساسيةَ للأدب الصهيوني هي كتب العقيدة اليهودية، وفي مقدمتها العهد القديم «التوراة، الأنبياء، والمكتوبات» وكتب الشرَّاح والمفسِّرين من الحاخامات كالتلمود «المشنا والجمارا والمدراش والهلاخا والهاجادا»، بما تتضمنه من أصول للمعتقد اليهودي، والأحكام والنصوص التاريخية والأخلاقية، وقوانين اليهود السياسية والمدنية والدينية، وهذه كلها تمثل المصدر الأول من مصادر الأدب الصهيوني .وهذه الكتب والمراجع شكَّلت دائمًا الإطارَ العامَّ الثابتَ لليهودية كمعتقد، فضلا عن مؤلفات مؤسسي الصهيونية الأوائل، موسى هس (1812م- 1875م) بنسكر (1821م- 1891م) هرتزل (1860م- 1904م) ،آحاد هاعام (1856م- 1927م) أهرون دافيد جوردون (1856م- 1922م) ، فلاديمير جابوتنسكي (1880م- 1940م .(ومن نماذج الأدب الصهيوني الداعي إلى العنف والقتل قصيدة للشاعر الصهيوني «يوناثان جيفن» بعنوان «عدت من إجازتي»، يقول في مطلعها «لو كنت قائدًا لجيشنا العظيم/ لزرعت الموت والدمار/ في كل المزارع والشوارع/ في كل المساجد والكنائس»، وتتجسد الثقافة العنفية في الرواية والقصة والسينما والمسرح و الإعلام .
والأمثلة القريبة للمشهد العنفي (لإسرائيل) هي غزة حيث يندرج العدوان الذي جرى ضمن تطور خطير وغير مسبوق في مشهد الصراع العربي الصهيوني إذ هي الحرب الأولى بمعنى الحرب بين الشعب الفلسطيني وقوات الاحتلال في الداخل، أما تداعيات العدوان عربيا فتوضح لنا أن القضية الفلسطينية لم تكن يوما من الأيام قضية الأنظمة بل هي قضية الشعوب بها. غزة حصينة وعزيزة ومنيعة ومستعصية فقد كانت منذ أن أسسها الكنعانيون باسمها المتواتر عبر الحضارات، هي غزة الكنعانيين في الألف الثالثة قبل الميلاد و(غزاتوه) تحتمس الثالث 1441/ 1501 ق.م ، ومدفن كنز(قنبيز) الفارسي، وقبر هاشم جد رسول الله ( ص) ومسقط رأس الإمام الشافعي، وهي حصينة بأبوابها التاريخية الأربع: «ميماس – عسقلان – الخليل - الداروم»، فقد استعصت على كل الغزاة وأخذت اسمها من منعتها على الغزاة، فكانت من أقدم مدن العالم حفاظا على اسمها، واتخذت من طائر العنقاء شعارا ًلها لأنها طوت كل الحضارات: الفرعونية، والآشورية والفارسية واليونانية والرومانية ثم قامت من رماد كل الحروب، فكيف للصهيونية العابرة بلا عنوان كالسراب والوهم بهذه المستعصية التاريخية غزة؟ كما يبرز من مفرزات وتداعيات هذه الحرب الخائبة على غزة أن استحالة التراجع عن الحق قائمة كلما مضى العدو بغطرسته واستحالة السلام مع هذا العدو قائمة مادام شلال الدم العربي ينزف، ولن ينمو تيار الخيانة والتخاذل لأنه مرهون بنزوات فردية ولا يشكل حالة ديمومة.