الترفيه «المحايد» واللا «أيديولوجي»!

الترفيه «المحايد» واللا «أيديولوجي»!

«إن بنية الثقافة الشعبية التي تربط عناصر الوجود بعضها ببعض وتشكل الوعي العام بما هو كائن، بما هو مهم وما هو حق، وماهو مرتبط بأي شيء آخر، هذه البنية أصبحت في الوقت الحاضر منتجاً يتم تصنيعه».

 

•جورج جيبرنر، مجلة سينتفيك أمريكان 1972 

مع التطور التكنولوجي السريع الذي شهده العالم الرأسمالي، واستجابة لحاجة ملء وقت الفراغ عند الناس، أصبحت صناعة التسلية والترفيه صناعة عالية النمو، ولها أثرها الثقافي الهائل، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، رغم عدم الاعتراف بذلك. في الواقع هناك ما يشبه الإصرار الواسع النطاق على أن هاتين الصناعتين لا تنطويان على أي تأثير على الإطلاق. ويتطلب تفسير هذا الإنكار الغريب للغاية نوع من التحليل.

الترويج لـ«الوضع الراهن»! 

على الرغم من الأساطير كلها التي تحاك من أجل التعتيم على حالة «السيطرة على العقول»، توجد في منتجات الترفيه والتسلية التي تصنع في معامل ماديسون أفينيو «شارع ماديسون» وهوليوود بالكلمة والصورة، فإن أسطورة مركزية واحدة تسود في عالم الخيال المصنوع هي الفكرة القائلة إن الترفيه والتسلية مستقلان عن القيمة، ولا ينطويان على وجهة نظر، وأخيراً فهما يوجدان خارج العملية الاجتماعية إن جاز التعبير!

من الأمثلة الواضحة هنا، هو: موضوع التمييز بين التلفزيون والتلفزيون التعليمي، فحسب هذا التقسيم المنافي للمنطق الذي يصر عليه دعاة الترفيه، لا ينبغي إذاعة أي شيء تعليمي في القنوات التجارية التي تشاهدها قطاعات واسعة من الجماهير، فيما عدا البرامج الإخبارية والأفلام التسجيلية. إن التأكيد على أن الترفيه لا ينطوي على أية سمة تعليمية هي من أكبر الخدع في التاريخ، يؤكد ذلك إريك بارنو مؤرخ التلفزيون الأمريكي قائلاً: «إن مفهوم الترفيه في تصوري هو مفهوم شديد الخطورة. إذ تتمثل الفكرة الأساسية في الترفيه، أنه لا يتصل من بعيد أو من قريب بالقضايا الجادة في العالم، وإنما هو مجرد شغل لملء وقت الفراغ، في الحقيقة هناك إيديولوجيا مضمرة بالفعل في أنواع القصص الخيالية كلها، فعنصر الخيال يفوق في الأهمية العنصر الواقعي في تشكيل آراء الناس». والحقيقة إن هذه الملاحظة لا تقتصر على التلفزيون فقط.

عندما يجري الحديث عن الطبيعة الأيديولوجية السائدة في الولايات المتحدة الأمريكية والقائمة على المؤسسات الخاصة متعددة الشركات، يمكن إثبات أن المنتجات الترفيهية شكلاً ومضموناً ورغم إفلاسها القيمي، يقصد بها تعزيز وجهات النظر وأنماط السلوك السائدة، فالترفيه الشعبي على حد قول إريك بارنو هو في الأساس دعاية تروج للوضع الراهن.

استراحة بين الشوطين!

هناك الكثير من المؤسسات الثقافية والإعلامية التي تطرح نفسها بوصفها لا أيديولوجية، فعلى سبيل المثال: تعتبر مجلة دليل التلفزيون، والمجلة القومية للجغرافيا، و«والت ديزني المتحدة للإنتاج الفني» وصاحبة التشكيلة المنوعة من منتجات ديزني بعض نماذج هذا الطرح، إضافة إلى العديد من الشركات العاملة في قنوات التلفزيون وصناعة السينما. وكل وسيلة إعلامية من هذه الوسائل تتفرد في لون محدد من ألوان الإنتاج الإعلامي المتعلق بالقيم الأساسية العامة.

إن الأثر الذي تتركه مجلة الاستطلاع المصور في جمهور القراء لا يقارن بمدى الإثارة التي تقدمها للجمهور، مشاهدة مباراة كرة القدم في دوري المحترفين، وتسقط اللا أيديولوجيا في الاستراحة بين الشوطين عندما يتم عرض استعراض عسكري لتشكيلات جوية وهذا يتيح لنحو 30 مليون أمريكي أن يشاركوا بشكل غير مباشر في احتفال عسكري للقوات الأمريكية بوصفها قوة حماية السلام في العالم «بشكل ترفيهي».

هكذا يعمل الإعلام «اللا أيديولوجي» و«الإعلام المحايد» في الولايات المتحدة الأمريكية والعالم، فهو يمتلئ بشكل دائم بالرسائل الأيديولوجية والسياسية التي تلعب دور تعزيز الوضع الراهن والحفاظ عليه عبر ملء ساعات الفراغ عند الناس بمواد ليس من اختيارهم، وإنما من اختيار الشركات العالمية الكبرى وإقحامها شكل قسري في حياة الناس طوال الوقت.

الألعاب الإلكترونية.. مرحلة جديدة

ظهرت الألعاب الالكترونية في الولايات المتحدة بداية ثمانينات القرن الماضي، بدأ انتشارها الكبير في العالم بعد عام 1990. وبعد ظهور الهواتف الذكية، انتشرت الألعاب بشكل سرطاني بين الناس كأحد أشكال وقت الفراغ. وتؤكد أغلب الدراسات أن التأثيرات الهدامة لهذه الألعاب تبدأ عند الأطفال من خلال تشوه في السلوكيات التربوية والتحريض على العنف المباشر.

يتم تصنيف الألعاب في خانة انعدام علاقتها بالعمليات الاجتماعية، ولكنها اليوم شكل من أشكال صناعة الترفيه والتسلية التي تصنعها الشركات الكبرى لخدمة الفكرة القائلة بـ «تعزيز الوضع الراهن»، عبر الملء القسري لساعات الفراغ عند الناس، في الوقت الذي يعتقد الناس أن هذا اختيارهم ولا علاقة لأحد بذلك.

وكمختلف أنماط الثقافة والإعلام، يتم تسويق الألعاب بأنها «حيادية» و«لا أيديولوجية» ولا علاقة لها بالوضع السياسي القائم في العالم، فهل هذا صحيح؟

تشترك الألعاب جميعها في موضوع صناعة الرموز الوهمية عند الناس، وتبدأ هذه العلمية عند الأطفال، وتستمر بشكل تراكمي عبر مراحل، تتشابك خلالها السينما وأفلام الكرتون والألعاب الإلكترونية، على سبيل المثال: الطفل الذي شاهد المسلسل الكرتوني «بوكيمون» قبل 15 عاماً قد أصبح كبيراً ولا بد من شيء جديد يثبت لديه هذه الرموز، فكان إنتاج لعبة «بوكيمون» قبل أشهر لتنفيذ هذه المهمة في عملية مستمرة للصراع ضد الرموز الوطنية والشعبية والاجتماعية والثقافية للشعوب، هنا تسقط الحيادية واللا أيديولوجيا المزعومة.

كما أن قسماً كبيراً من هذه الألعاب تحرض على العنف مباشرة «بشكل ترفيهي» مثل لعبة كلاش أوف كلانز المشهورة، وبعض الألعاب التي جرى تصميمها لخدمة فكرة صراع الحضارات لصامويل هنتغتون، مثل: لعبة الإمبراطورية والممالك الأربعة، التي هي لعبة حرب على شكل العصور الإقطاعية ويجري تشكيل تحالفاتها أون لاين على شكل: حلف الشرق الأوسط ضد الحلف التركي! وهنا تسقط الحيادية المزعومة واللا أيديولوجيا أيضاً لتدخل هذه الألعاب في خدمة تعزيز وسيادة الوضع الراهن، سواء كان الوضع الراهن سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً، في تشويش مفتعل على الصراع الطبقي وبشكل يمنع الناس في وقت فراغهم من التفكير به على أقل تقدير.

هناك وضع سياسي راهن يجب تعزيزه ويمنع الاقتراب منه، يجب أن يبقى العالم شمال غني وجنوب فقير، يجب أن يبقى الاستعمار الحديث والشركات الكبرى يتحكمان برقاب الشعوب والبلدان في المعمورة كاملة، ومطلوب من الجماهير المليونية أن «تتسلى» فقط في ترفيه كاذب، ولا يجوز ترك دقيقة واحدة تذهب هدراً دون تحقيق هذا الهدف.