تراث محنة ابن حنبل (2)

شهد موقف المعتزلة من السلطة تغيراً أساسياً في عهد الخليفة المأمون، فعلى الرغم من أن هذه الفرقة قد ولدت أساساً من رحم الصراع السياسي- الأيديولوجي ضد السلطات الحاكمة في العصر الأموي، وكان أعلامها الكبار في صفوف المعارضة على الدوام، إلا أنها تمكَّنت في العصر العباسي من التماهي التام مع مشروع المأمون السلطوي والمعرفي، ومن الصحيح القول بأن فرقة تنويرية كالمعتزلة، كان لابد لها أن تتقارب مع خليفة مثقف كالمأمون الذي أخذ على عاتقه قيادة واحد من أهم المشاريع التنويرية في التاريخ الإسلامي، إلا أن مشروع المأمون في الواقع لم يكن يحركه هاجس معرفي مجرد، بل كان له موضعه الأساسي ضمن الاستراتيجية السياسية والسلطوية التي رسمها منذ توليه الحكم، وهكذا فقد كان التحاق المعتزلة بالمأمون يشير إلى طموح سلطوي واضح لديهم.

وعلى الرغم من أن المعتزلة لم يكونوا جماعة متجانسة تمتلك تنظيماً معيناً، فإن التحاقهم بمشروع المأمون كان شاملاً، ولم يقتصر على المفكر المعتزلي أحمد بن أبي دؤاد، الذي استوزره المأمون، وأناط به دوراً أساسياً في عمليات القمع الشاملة التي قادها ضد المخالفين له فكريا ًوسياسياً، واضعاً أنصاره وتلاميذه في مواقع صناعة القرار الحساسة في الدولة. وإذا كان أعلام المعتزلة الكبار في ذلك العصر «والأكثر أهميةً بكثير من ابن أبي دؤاد» كالعلاف والنظَّام والجاحظ، بعيدين نسبياً عن الارتباط المباشر بالمؤسسات السلطوية، إلا أنهم كانوا مستفيدين استفادةً مباشرة من الوضع القائم، الذي أتاح لهم أن يقوموا بنشاطهم المعرفي بمأمن من مضايقات مخالفيهم من رجال الدين السلفيين، ووفر لهم الدعم المادي والمعنوي من السلطة، متيحاً لأعمالهم كل الانتشار والرواج، ولذلك لم تذكر المصادر أية إدانة صدرت منهم لموجة القمع الشديد التي عرفها ذلك العصر. وهكذا يمكننا القول إنه قد تم إدماج كل الإنتاج المعرفي المتنور في بنية السلطة، وأصبحت كل الظروف مهيئة لبدء «المحنة».

بدأت المحنة في عام 218هـ، واستمرت لمدة سبعة عشر عاماً، ممتدةً طيلة عصر المأمون وخليفتيه المعتصم والواثق، وكانت البداية بالرسالة التي أرسلها المأمون إلى عامله على بغداد اسحق بن ابراهيم، حيث طلب منه أن يمتحن مجموعةً كبيرةً من رجال الدين والفقهاء، بل وحتى رجال الدولة وإداريها، حول مواقفهم من قضية خلق القرآن (وهي قضية قال بها الجعد بن الدرهم في إطار صراعه الأيديولوجي مع الدولة الأموية، وتبناها المعتزلة فيما بعد) طالباً منه التنكيل بكل من يرفض القول بها، وبغض النظر عن التفصيلات الفكرية الدقيقة والمعقدة لقضية خلق القرآن، فقد كان اختيار المأمون لها اختياراً موقفاً، حيث كان الاعتراف بها من رجال الدين السلفيين يعني تراجعهم التام عن مواقعهم الفكرية، وبالتالي حرمانهم من إطارهم المعرفي، الذي مكَّنهم من اتخاذ موقف معارض من السلطة اكتسب شعبيةً جماهيريةً واسعة.

وأمام كل عمليات القمع الوحشي التي تعرض لها الفقهاء السلفيون طيلة سبعة عشر عاماً، انهار معظمهم وأقروا بما تريده السلطة، باستثناء الفقيه أحمد بن حنبل الذي صمد أمام التعذيب الذي تعرض له ببطولة حقيقية، ولم يتراجع رغم كل شيء عن رفضه لقضية خلق القرآن، ومن هنا ارتبطت «المحنة» دائما باسم ابن حنبل الذي كان بطلها الأول.

إلا أن الموازين والأدوار سرعان ما انقلبت في عهد الخليفة المتوكل، فقد انتهت فيه المحنة ليبدأ عصرٌ جديد، سماه الباحثون المعاصرون «الانقلاب السني»، حيث قام المتوكل بالتقرب من رجال الدين السلفيين، واضطهاد المعتزلة والفلاسفة وكل أصحاب الفكر المتنور، وعلى الرغم من أن المتوكل كان من الناحية الأخلاقية بعيداً كل البعد عن أية قيمة دينية، فإنه قد أدرك على مايبدو أن خيارالاستعانة برجال الدين السلفيين، أكثر نجاعةً من خيار الاستعانة بالمثقفين التنويرين الذي تبناه المأمون وخلفاؤه، حيث كانت الأفكار التنويرية صعبة الفهم والتمثل بالنسبة للعامة، وتحتاج لزمن طويل لكي تنتشر في اوساط الناس، وتحتل الموقع الذي كان يحتله الفكر السلفي، في حين كان المتوكل يحتاج لدعم سريع من قوة مدعومة جماهيرياً، كقوة الفقهاء، لمواجهة القادة الأتراك الذين تسلطوا على الحكم منذ عهد المعتصم، وهكذا بدأت حلقة جديدة من سلسلة المحن التي تعرض لها الفكر التنويري عبر التاريخ الإسلامي، والتي لم يتفجع الكثيرون لها، كما تفجع وتباكى العديد من المؤرخين لأجل «محنة ابن حنبل». 

 ■ محمد سامي الكيال

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على الثلاثاء, 29 تشرين2/نوفمبر 2016 22:47