مطبّات الأبواب
مايزال الباب الذي يخفي خلفه دهليزاً طويلاً يقود إلى فناء كبير يهدهد ذاكرتي، الباب الذي تنقش المسامير الحديدية على وجهه الخشبي لوحة قاسية لا تنسى.
بعد ثلاثين سنة من هجره، وبعد أن زال الباب وصار إن ما قيض له البقاء مرمياً في سوق للأنقاض، أو التقطه هاو للتراث ليركنه في مستودع الذكريات.
بعد كل هذه السنوات ما زال حاضراً كباب قلعة ردعتني كثيراً، وحفزت همتي على عدم النكوص، اللهاث وراء الهين الذي يغني ويسمن من جوع.
غادرت مع عائلتي القلعة، وهربنا باتجاه الريف لتحقيق حلم والدتي ببيت نملكه، وهو الحلم الذي لا أجرؤ على التفكير به وقد وصلت الأربعين، في الطريق إلى الحلم تمزقت روحي، لم يغادرها الباب، في الغرفتين والفسحة الصغيرة التي صار يمتلكها أبي، كانت الأبواب المعدنية الصغيرة لا تعني باباً، مجرد مخرج إلى الشارع أو المدرسة أو الدكان.
منذ ذلك الوقت صرت أشعر بالأمان الغائب، سقطت قلعة أحببتها، وانهزمت من ذاكرتي المسامير التي شكلت لوحة عناد للزمن، وجه خشبي تزينه المسامير دون وجع، مسامير لا تشبه تلك التي تزين الجسد المصلوب في الهواء على خشبتين، مسامير دامية ومؤلمة، أما مسامير بابي ناعمة الملمس، فتآخت مع الخشب حتى صارت منه.
في البيت الجديد، وسط زحمة الهاربين إلى الأحلام، الهاربين من بيوت صارت ركاماً بعد الهزيمة، إلى بيت يقترب في تصميمه من ذلك البيت البعيد، ثم خلق بيئة تشبه التي ضاعت، شجرة على الأقل في الباحة، بعض الخراف والدجاج، حليب مسائي من ضرع عارم، صوت الثغاء الممدود على الصدى، رائحة الحيوانات في صيف حار، التدخين الشبق في سهرات المساء، وحكايا الزير سالم، سيف بن ذي يزن، ودموع هادئة على أرض تشبه الأساطير، أبواب لها مفاتيح ما زالت معلقة في أعناق العجائز، طابو عثماني، دفتر دخان لف حموي، وحكايا عن الينابيع والآبار التي تملأ من مائها دون حبل ووعاء، ماء ينساب من البئر الذي لا يكاد يبلغ المتر عمقاً، ذكريات لها برودة الماء في فم بدوي شقت الصحراء روحه.
مع كل هذا الزخم الروحي لم يغادر الباب الذي ولدت خلف دهليزه روحي، كبرت وعشت قصة أبواب أخرى، أبواب ليست بعيدة عن روح بابي، أبواب أكبر، لم أسكن خلفها، اكتشفت في دوراني الطويل عشقها، السير اللذيذ من القلعة إلى باب توما، المسير الليلي بصحبة صديق مجنون إلى باب شرقي، ومن ثم إيصال حبيبة إلى مدخل الغوطة من باب شرقي.
في البحث عن بنطال للعيد، قميص جديد، تعرفت على باب الجابية بعد أن تمر من أمام الباب الذي يزدحم بالناس (سوق الحميدية)، في هذه الأسواق وأمام تلك الأبواب الكبيرة يصطف باعة القطع الرخيصة وما زالوا، من هنا يأتي الفقير بجديد العيد، الفرح الذي لا يمر بالأسواق الباهظة، سيراً من البرامكة إلى باب الجابية حيث شراء بنطال جديد هدف يستحق عناء الذهاب إليه على الأقدام.
بقية الأبواب تعرفت عليَّ مع الغرق الإرادي بحب المدينة الأقدم، أبواب لا توصد، وماء مجاني في كل الحواري، السبيل المثلج الدمشقي كان العنوان الذي يدل على أنك في دمشق دون خريطة.
الآن... لا أبواب تشبه روحي، روحي المتعبة بالنظر إلى الوجوه البائسة للمارين من خلالها، لم يعد بإمكان العيون أن تقف لتحدق في حجر يتهاوى أو يكاد مما تبقى من الباب الذي يتكئ أمام الجامع الأموي، العيون هائمة في البحث على عمل يجد يوصل إلى رغيف خبز، عيون جائعة.
الآن .. الأبواب ليست موصدة، لكن الناس موصدون بالجوع، البكاء على حكايات قديمة رواها الأهل عن مدينة لا تشبه الرواية.
الآن.. بابي في سوق الأنقاض، باب بيتي الحديدي لا يشعرني بالأمان، فقط ذكريات الباب المحلى بالمسامير...
في الأزمات التي تعصف بنا، نبحث عن ما يمسك الروح من الموت، لكن الذكريات تزيد من وطأة الأسى، ذكرى الباب توقظ الخوف من المجهول، سبيل الماء يذكرك بالعطش الذي يتربص بأوصالنا، باب الجابية يثير الفزع من جمهور العاطلين عن العمل، سوق الحميدية لا يعني سوى البحث عن امرأة ضالة دون نقود، بابي يثير الهلع... الأبواب مغلقة الآن... على الأمل.
■ ع . د