طارق عبدالواحد طارق عبدالواحد

مَ..دْ..مَدْ..رَ..مَدْرَ..سَ..مَدْرَسَ..ة مدرسة!..مدرسة!!..

وكانت مدرستنا الإبتدائية مسورة بسور عالٍ من ثلاث جهات، أما الجهة الرابعة فقد كانت مانعاً طبيعياً، فقد كان يحد مدرستنا من الشمال نهر موسمي «لم يعد موجوداً الآن». ولم يكن في مدرستنا دورة مياه، فكان ذلك النهر بالإضافة إلى كونه حداً طبيعياً أسوة بالجغرافيا.. دورة مياه في الهواء الطلق، ويمكنكم أن تتخيلوا تلك اللحظة التي يقرع فيها الجرس، حيث يهرع عشرات التلاميذ إلى ذلك النهر..

عدم وجود دورة مياه في مدرستنا لم يسبب لنا مشكلة على الإطلاق، فقد كنا صغاراً. أما بالنسبة للبعض فقد كان مشكلة حقيقية، الآنسات خصوصاً.. اللواتي اعتدن زيارة مدرسة البنات القريبة، جماعات جماعات، في الفرص. وكنا نحن التلاميذ الأبرياء نعرف أسباب تلك الزيارات، بل وكنا ننبه بعضنا البعض بكلمة واحدة تحمل كل ذلك الإيماء: راحوا!..

وكنا أبرياء يا صاحبي!..

واضطر القائمون على الأمر لبناء دورة مياه في مدرسة البنات لعدم وجود نهر يحيط بتلك المدرسة، وكنا أبرياء يا صاحبي، وكنا نتسلق سور مدرسة البنات العالي ونتفرج على الفتيات الصغيرات..

ثم كبرنا، ودخلنا المدرسة الإعدادية، ولم يكن يحدها نهر من الشمال، لكن دورة المياه كانت مغلقة بالجنزير، ولم يسمح للطلاب بدخولها، ولم تكن الآنسات ليذهبن إليها في الفرص، فقد كبرنا يا صاحبي، ووقعنا في حب الآنسات..

وكان الحائط الشرقي لمدرستنا أكبر معمل للنشادر في الشرق الأوسط، وأحياناً كان بعضنا يهرب من الحصص ليحظى بفرصة رؤية آنسة وهي تمشي خلف الآذن المكلف بفتح الباب، وصار ذلك الآذن صديقاً للمشاغبين والهاربين من الحصص أمثالي، وكان يروي لنا أحاديث وأسراراً، وكنا مراهقين يا صاحبي..

وكنا تعساء أيضاً يا صاحبي!..

ففي الصف الخامس كان الأستاذ أنيقاً جداً، ونجحت في نيل العلامة الكاملة «عشرة على عشرة جيد أحسنت» في فحص الرياضيات، مع زميلين اثنين آخرين، واحد منهما قريب للأستاذ لدرجة أن الأستاذ كان يبدو وكأنه يعطي الدرس له فقط. لم يرق ذلك للأستاذ، فأخضعنا نحن الثلاثة لامتحان جديد ليحدد من فينا الأشطر. وكان الامتحان صعباً يا صاحبي، فغرقنا في التفكير، وغرق جميع الطلاب الآخرين في الصمت القسري فضلاً عن الجلسة الصحية. وأخذت عشرة يا صاحبي وكان أبي أمياً، وأخذ الثاني تسعة وكان أبوه أستاذاً، وأخذ ابن عم الأستاذ تسعة وكان أبوه مختاراً، فغضب الأستاذ، ولم يصفق لي التلاميذ تلك الصفقة الطليعية.

وفي الصف السادس لم يخترني الأستاذ لأشارك في مسابقات الرواد الطليعيين، ففرحت يا صاحبي. لكنه في اليوم الثاني غيّر رأيه، فاختارني عن فئة الاجتماعيات، وكان ابن عمه في فئة الرياضيات. وفي المسابقة لم أبذل أي جهد إضافي إلا للثأر من الأستاذ، فنجحت في الثأر وفشلت في المسابقة، وفشل ابن عم الأستاذ.

وكنا خطرين على الأمن الوطني يا صاحبي!..

فعندما دخلت المرحلة الإعدادية بدأت أحب الشعر يا صاحبي، ولم يبدأ ذلك الحب بسبب القصائد التي حفظتها في دروس النشيد، ولا من كتب المكتبة، ولا بسبب تشجيع الأساتذة. وحصل ذلك عن طريق المصادفة، وباكتساب إحدى عادات جدي في القراءة. فقد كان جدي يصر على قراءة أوراق الروزنامة، ويطلب مني أحياناً أن أقرأها له عندما لا يجد النظارة. وهكذا حفظت أول بيتين من الشعر يا صاحبي، وكانا للشافعي، ويقولان: تموت الأُسد في الغابات جوعاً/ ولحم الضأن تأكله الكلابُ/ وعبد قد ينام على حرير/ وذو نسب مفارشه الترابُ..

كنا صغاراً. ومنذ ذلك الوقت كان بعضنا مهتماً بالأمن القومي أسوة بأساتذتنا الساهرين على أمن الوطن ورعاية المشاعر الوطنية. وكنتيجة منطقية لهذه المعادلة السائدة، فقد جاء الآذن واستدعاني إلى مكتب أمين السر، القصير والقاسي. وهناك.. أخرج من جارور مكتبه دفتراً، وسألني: لمن هذا الدفتر؟ وكان الدفتر دفتري يا صاحبي. وفكرت أني فقدته في مكان ما وأن الأستاذ يريد أن يعيده لي. لكن الوجه الـ.. يتقطر سماً أنبأني بغير ذلك. ثم فتح الدفتر على الصفحة الأولى حيث دونت بيتي الشعر السابقين، وسألني: من كتب هذا الكلام؟ قلت: أنا. فبدأ يراوغني ويتحايل علي لأخبره من علمني ذلك. فأخبرته الحقيقة وأنا أردد أغلظ الأيمان. لقد وجدتهما على ورقة روزنامة، ولم يصدقني، وطلب مني أن أذهب إلى البيت لأحضر ورقة الروزنامة تلك. وكان ذلك مستحيلاً.. فلا أحد يحتفظ بورقة روزنامة كل هذا الوقت. وهكذا غير الأستاذ خطته إلى خطة شائعة، فأخرج عصا غليظة وانهال علي بالضرب. وكنت جحشاً يا صاحبي.. فلم أبكِ، فغضب الأستاذ كثيراً، فبدأ يلكمني بقبضته ويلبطني بقدميه، وخرج الدم من أنفي وأسناني، ولم يتركني حتى هده التعب، ثم عاد إلى مكتبه وارتمى على الكرسي. وبعد أن التقط أنفاسه طلب مني أن أقوم وأشطب تلك الكلمات المدونة على دفتري، فقمت، فزمجر: هيا.. اشطبها بيدك. مددت يدي لأتناول قلماً مرمياً على الطاولة، فصرخ ملسوعاً: أين قلمك؟ فأجبت: في الصف. فقال: انقلع واحضره، فصعدت إلى الطابق الثالث، ودخلت إلى الصف..

كادت الآنسة أن تسقط في حالة إغماء عندما رأتني على تلك الحال، وسألتني وهي على وشك الانهيار: من فعل بك ذلك؟ ولم أرد عليها وذهبت مباشرة إلى مقعدي وأحضرت القلم وخرجت، وتركت الآنسة وسط الذهول.

كان قلماً من نوع «ريم»، القلم الوطني السائد آنذاك. جربت أن أشطب الكلمات على وقع كلمات أمين السر وتقريعاته: الجندي الحاذق لا يذهب إلى المعركة دون بندقية. ولم يكتب القلم، فحاولت أن أمزق الورقة كلها، فصرخ الأستاذ: لا..اشطبها حرفاً حرفاً. قمت بنزع السدادة الزرقاء وأخرجت لب القلم، ونفخت فيه، وتخيلت للحظة أنني أشطب الكلمات بأنفاسي، وكنت أقرب ما أكون إلى الكلمات، وشعرت بتيار صغير من الفرح، لكنني كتمت مشاعري تلك.. كيلا ينتبه أمين السر، فلا بد أنه يعرف جميع الأسرار، وإلا لماذا سموه: أمين السر!!..

آخر تعديل على الثلاثاء, 29 تشرين2/نوفمبر 2016 19:37