رغم فعالية دورها الثقافي والاجتماعي (1-2) المراكز الثقافية الأجنبية بين الرؤية الاستشراقية وإنتاج الثقافة المحلية واللامبالاة
حتى قبل سنوات قليلة وقبل افتتاح دار الأوبرا، وبمعزل عن النشاط الثقافي الموسمي كما في المهرجانات «مهرجان دمشق السينمائي ومهرجانها المسرحي الذي غاب طويلاً»، وبغض النظر عن نشاط صالات الفن التشكيلي الخاصة، كانت الفعالية الثقافية في البلد تصنعها المراكزالثقافية الأجنبية، أما المراكز الثقافية والمؤسسات الثقافية الحكومية فكانت تقدم منتجاً ثقافياً من الدرجة الثانية قلما استقطب جمهور النخبة والإعلام المستقل.
لاشك أن المركز الثقافي الفرنسي بقي الأنشط بين المراكز الأجنبية، وحتى وقت قريب كان مكاناً للقاء، وذلك قبل إتخاذ إجراءات أمنية ومنع التدخين بداخله، فكان بهوه السفلي الذي يضم صالة العرض فضاءً مفتوحاً للجميع، وانتشر الرواد على الأدراج وفي الكافيتريا«قبل أن تتولاها أروما كافيه»، وكانت المكتبة التي تضم قسمأً عربياً ومكتبة موسيقية غنية «ألغي القسم القديم والهام منها» متاحة للجميع ومجانية، أما المكتبة الفرنسية الثرية فقلما شكلت إسهاماً جدياً، نظراً لعدم امتلاك معظم المثقفين السوريين للغة أجنبية. ورغم أن المركز يضم صفوفاً لتعليم اللغة الفرنسية، إلا أن هذه الوظيفة كانت تعني المنتسبين إلى هذه الدورات، فيما استمر تردد قطاعات واسعة من الشباب والمثقفين إلى المكان لأسباب لا علاقة لها بتعلم اللغة. وكان يشار للمركز بكلمة «السانتر» أي ببساطة: المركز. موظفو المركز هم أيضاً أشخاص معروفون في الأوساط الثقافية يتمتعون بالوعي وبالقدرة على التعاون وينظر إليهم كأصدقاء.
استضاف الـ ccf على مدى سنوات نشاطات ثقافية نوعية، ومازالت بعض الأحداث التي نظمها أو رعاها محفورة في الذاكرة، لكن شيئاً ظل ناقصاً في نشاط المركز كغيره من المراكز الأجنبية، مع الإقرار بأن مستوى نشاطات المركز في تراجع مستمر، المركز الفرنسي بدا دوماً محكوماً برؤية استشراقية، فكثرت المحاضرات عن الآثار السورية القديمة، وعن الحضارة الإسلامية، وروج لإنتاجات ثقافية تقدم الشرق كشرق بصورته النمطية التي يروق للغربي أن يرى بها المنطقة، فيما تقلص حيز ما هو حديث وعصري في سورية. بالإضافة إلى ذلك كان للإنتاج الثقافي المحلي حصة كبيرة من برنامج المركز، صحيح أن المركز هو فضاء ثقافي يمكن أن يستقبل المبدعين المحليين لتقديم إنتاجهم، لكنه ومع تحبيذه لنتاجات من طابع معين، وتدخله الضمني في تشكيل الاتجاهات المحلية، إلا أن واجبه الأساسي يبقى التعريف بالثقافة الفرنسية، نعلم أن السانتر استضاف أسماء كالروائي آلان روب غرييه، والشاعرين آلان جوفروا وأندريه فالتير، لكنه كان أكثر حماساً لاستضافة يسري نصر الله ومحمد أركون وياسمينا خضرا الذين تحدثوا بالفرنسية! حتى مكتب الترجمة في المركز المسمى «مكتب سعد الله ونوس للترجمة» لم يقدم كتباً أساسية في التراث الفرنسي حين دعم نشر كتب من دور نشر سورية. إما أن الجمهور السوري لم يبلغ سن الرشد وإما أنه يوجد اعتقاد بأن الثقافة الفرنسية لاتهمه.
المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق (ifead) الذي أصبح المعهد الفرنسي للشرق الأدنى ifpo)) رغم طابعه الأكاديمي استمر لفترة طويلة في تنظيم نشاطات ثقافية محدودة وكان طابعها محلياً، لكنه استقبل أسماء كممدوح عدوان ونبيل سليمان، وأقام حفلات موسيقية صغيرة ومعارضَ، وعرض أفلاماً. هذه النشاطات صارت شبه معدومة الآن، ومع استمرار المعهد في تنظيم ندوات علمية رفيعة، إلا أنها ذات طابع اختصاصي ويعلن عنها على نطاق ضيق.
المركز الثقافي الروسي، حين كان المركز الثقافي السوفييتي كان ينافس المركز الفرنسي بقوة على المكانة، ويضم مسرحاً هو الأكبر بين مسارح المراكز، وهو كالفرنسي بناء صمم وبني لهذه الغاية ومن المعالم المعمارية في وسط المدينة، يحتوي البناء المؤلف من عدة طبقات على قاعات كثيرة للعرض والمكتبة ودورات اللغة والرقص والرسم، لكن مع انهيار الاتحاد السوفييتي والفوضى الإدارية والمالية التي عانى منها، صار يضم مقهى إنترنت، وقاعة للبلياردو والسنوكر، وقاعة لتدريب التايكوندو، بل إن مكتباً سياحياً استأجر قاعة فيه.
كثافة نشاطات الحقبة السوفيتية ذهبت إلى غير رجعة، وإن كانت هذه النشاطات بمعظمها يسارية أو ذات علاقة بالمقاومة الفلسطينية، واليوم يستضيف المركز معارض تشكيلية متواضعة مأجورة، ويعرض أفلاماً لا يشاهدها أحد، أما كافيتريا المركز في القبو، فهي مكان عام للغاية، ولا يمت بصلة للثقافة.