الافتتاحية ويسألونك عن الاقتصاد الحقيقي؟!

في ظل انتشار وتعمق الأزمة الرأسمالية العالمية، طولاً وعرضاً، يكثر الحديث عن الاقتصاد الحقيقي من الجميع..

 والملفت للنظر أن الفائزين الأوائل اليوم في سباق هجاء الاقتصاد غير الحقيقي، هم أنفسهم أولئك الذين همشوه و«معسوه» خلال الفترة الماضية تحت شعارات الليبرالية الجديدة المروجة لاقتصاد السوق الحر ويده الخفية المنظمة للسوق التي لا تطيق «التخطيط المركزي الشمولي».. وواضح أن مثلهم مثل الحرامي الذي يركض صارخاً «امسكوا الحرامي».. وكي لا تلتبس الأمور على أحد، نحن مضطرون للتوضيح. إن المقصود بالكلام أعلاه بالدرجة الأولى هم منظرو الليبرالية العالمية وقادتها، وليس ليبراليينا المحليين الذين كانوا ينفذون التوجه العام «للموضة العالمية» التي أفل نجمها الآن تحت ضربات الواقع والانهيارات المتلاحقة، وكما تؤكد الحياة مرة أخرى فالواقع أصدق أنباء من كل «الشطارات» النظرية للرأسمالية في عهد انحطاطها وأفولها..

إذاً، المسألة اليوم ليست بالاعتراف بقيمة الاقتصاد الحقيقي ودوره، فالحياة حسمت هذه المسألة.. وما تحسمه الحياة يتوقف النقاش حوله، وتفتح صفحة جديدة حول أمور لاحقة ومستجدة، وهي اليوم وتحديداً في هذا المجال:

- ما هو الاقتصاد الحقيقي؟

- ما هي علاقته بالفروع الأخرى للاقتصاد؟

- كيف يتم احتسابه؟ وهل الاختلاف بطريقة احتسابه هي قضية تكنيكية أم قضية أيديولوجية واجتماعية وسياسية؟

- هل هيمنة الفروع الأخرى من الاقتصاد على الاقتصاد الحقيقي هي غلطة أم هي موقف أيديولوجي مسبق يخدم مصلحة أحد ما؟ ومن هو؟

في البدء يجب التذكير أن فروع الاقتصاد الحقيقي هي تلك الفروع التي تنتج قيماً سلعيةً، أي تنتج قيمةً مضافة، وليس كل ربح هو قيمة مضافة، فهناك ربح ناتج عن قيمة مضافة، وهناك ربح ناتج عن إعادة توزيع الربح المنتج في فروع إنتاج القيمة المضافة.. فالزراعة تنتج قيمة مضافة، أما المرابي الزراعي فيعيد توزيع هذه القيمة، والصناعة تنتج قيمة مضافة، ولكن المصارف التي تتعامل معها تعيد توزيع ما أنتج هناك.. وطريقة التوزيع هذه، ولمصلحة من تتم، لها علاقة بالنظام السياسي- الاجتماعي.. فإذا كان النظام رأسمالياً يهيمن عليه الرأسمال المالي عبر أدواته من مصارف وأسواق مالية وغيرها، فإن إعادة التوزيع هذه تتم لمصلحة من يملك المال الأكثر، وليس لمصلحة من ينتج، حتى ولو كان رأسمالياً، فكيف بالعامل والمزارع؟!.

لذلك، وكي يخفي هؤلاء سرقتهم واحتيالهم على أكثرية المجتمع، فرضوا طريقة لاحتساب ثروة المجتمع المنتجة مجدداً والمسماة الدخل الوطني، يخلط فيها الحابل بالنابل كي لا يتبين من أنتج ومن سرق الإنتاج؟! وهذه الطريقة تتلخص بإضافة كل دخول فروع الاقتصاد التي لا علاقة لها بالاقتصاد الحقيقي إلى مجمل الدخل العام.. فهم من جهة يخفون بذلك حجم سرقاتهم الفعلية، ومن جهة أخرى يخفون السبب الحقيقي للمشكلات التي يعاني منها الاقتصاد الرأسمالي نفسه لأن في ذلك موتاً لهم..

والأزمة العالمية الحالية ما هي إلا دليل فاقع على دور الرأسمال المالي العالمي فيما وصلت إليه الأمور من تدهور وسوء في الحال.. والخلاصة أن الزراعة والصناعة هما العمادان الرئيسان للاقتصاد الحقيقي، وهما المتضرران الرئيسان من هيمنة الرأسمال المالي، وهنا نصل إلى بيت القصيد..

طالما بات معروفاً سبب الأزمة وهو تهميش الاقتصاد الحقيقي، فما نحن فاعلون باقتصادنا كي يتجنب ويلات الأزمة المالية العالمية التي تتصاعد؟ هل يكفي الحديث عن الاقتصاد الحقيقي بعد أن هشمه البعض بإجراءاتهم الليبرالية الممالئة لتلك الفروع من الاقتصاد التي تعيش وتعتاش على حساب الاقتصاد الحقيقي، أم يجب التوجه نحوه فعلياً عبر التوجيه السريع وبشكل جاد لكل الموارد في هذا الاتجاه فقط؟!..

لقد رُسمت الخطة الاقتصادية السابقة في ظروف اقتصادية مختلفة عن الحالية، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر فيها جذرياً وتكييفها مع الواقع الجديد، فالنصائح التي كانت تملى لضرورة الاتجاه نحو السوق الحر وتكييف اقتصادنا مع متطلبات السوق الدولية قد انهارت مع الانهيار الحاصل، والاستمرار في هذا الاتجاه يطرح سؤالاً مشروعاً: إلى أين نحن متجهون عملياً؟

المهم الآن أن تُجسر الهوة بين التصريحات والأفعال.. لذلك استقبل السوريون بارتياح ما أبلغته الخارجية السورية إلى سفراء الاتحاد الأوروبي في 15/1/2009 حول عدم قبول سورية من الآن فصاعداً إثارة أي مسؤول غربي معها مسألة النظام الاقتصادي الحر الذي أدى إلى هذه الأزمة الاقتصادية العالمية.. وإذا كانت هذه الخطوة صحيحة في مكانها وزمانها، فالأصح أن تترجم بسرعة إلى أفعال.. وفي ذلك ضمانة لتعزيز كرامة الوطن والمواطن..

آخر تعديل على الإثنين, 28 تشرين2/نوفمبر 2016 22:31