جديد الإشارات والتحولات: ونوس يُمنع من جديد... وعربش يُطرد من حلب!!
ما هي المسافة الزمنية الحقيقية التي تفصلنا عن عهد الوالي العثماني راشد ناشد باشا؟ هذا السؤال قد يبدو غريباً لأول وهلة فيما يتعلق بموضوعنا، ولكن فتح ملف الإشارات والتحولات بمعناها الواسع يدعونا حقاً إلى إعادة طرح الأسئلة القديمة عن معنى الزمن!!
إذا فكرنا بإعطاء إجابة تقليدية عن السؤال، فسنقول إن قرناً من الزمان قد بات يفصلنا عن ذلك العهد بولاته وفقهائه وأشرافه، وإن تحالفات المؤسستين الدينية والسياسية، وأساليبها في بسط سيطرتها وهيمنتها، وإعادة إنتاج أشكال ضبطها الاجتماعي، قد باتت من القضايا التراثية التي لم تعد قادرةً على تأريق أحد، سوى قلة قليلة من المختصين بالتراث. إلا أن الحدث- الصدمة التي شهدته مدينة حلب مؤخراً يدفعنا إلى إعادة النظر في إجابتنا هذه، لنقع في إشكالية فكرية عميقة حول زمن دائري غير قادر على التقدم، يكرر نفسه دوماً ضمن حلقة مفرغة. وحول سلطة جامدة وراكدة لم تغير تقنياتها واستراتيجياتها منذ قرون!!
ترى، هل هذه الإشكالية نفسها هي التي دفعت المناضل الوطني الكبير فخري البارودي (صاحب نشيد «بلاد العرب أوطاني») إلى سرد قصة مفتي دمشق مع نقيب أشرافها في عهد راشد ناشد باشا؟ تلك القصة التي اعتمد عليها سعد الله ونوس في بناء مسرحيته الإشكالية «طقوس الإشارات والتحولات»، وهل أراد البارودي حقاً من ذكر تلك القصة أن يظهر مدى تضامن وتلاحم «أهل دمشق» كما يدعي، أم أن اللغة الكلاسيكية التي كتب بها الخبر تخفي من السخرية المبطنة والنقد الضمني ما يجعلنا نفهم بوضوح ما يقصده من عبارة «تضامن أهل دمشق»؟!!
نحتاج إلى الكثير من اللامبالاة حتى نعتبر منع عرض مسرحية «طقوس الإشارات والتحولات» في مدينة حلب حدثاً اعتيادياً وعابراً، فبغض النظر عن تقييمنا لأسلوب مخرج العرض وسام عربش في تقديم ذلك النص الهام، فإن طريقة المنع، والجهات التي حرضت عليه، والتصريحات التي رافقته، تجعلنا نفكر جدياً بطقوس الإشارات والتحولات التي يشهدها المجتمع السوري حالياً، ولعلنا بحاجة من جديد إلى كاتب من وزن سعد الله ونوس ليعبر لنا عن هذه الطقوس:
في الخمسينات من القرن الماضي نشر نزار قباني قصيدته الشهيرة «خبز وحشيش وقمر» التي أثارت استياء الفئات المحافظة في البلاد، مما دفع بعض النواب المنتمين لتيار الإخوان المسلمين إلى تقديم شكوى بحق نزار قباني إلى خالد العظم، وزير الخارجية في ذلك العهد، باعتبار أن قباني كان موظفاً في السلك الدبلوماسي التابع لتلك الوزارة، فردَّ العظم على المحتجين بالكلمات التالية: «يا حضرات النواب الأعزاء... نزار قباني الشاعر، خلقه الله شاعراً، وأنا كوزير للخارجية لا سلطة لي عليه، ولا على شعره، فإذا كنتم تقولون أنه هجاكم بقصيدة، فيمكنكم أن تهجوه بقصيدة مضادة، وكفى الله المؤمنين شر القتال».
فلنقارن هذا الكلمات بأقوال وزير الثقافة الحالي رياض نعسان آغا، الذي صرح لموقع «العربية نت» مبرراً إيقاف العرض في حلب: «العمل فيه بعض الجمل التي لا تقبلها القيم، لم تحذف في عرض حلب، ما جعل المسرحية تتعرض لهذا النقد الحاد من المجتمع، وليس من الدولة، بسبب الإساءة إلى آل البيت. وهي عن نقيب الأشراف مع مومس، إضافةً إلى الاستهزاء بشخصية المفتي».
المقارنة ستولد لدينا شعوراً عميقاً بالشجن، فأين اختفت تلك العقلية الوطنية التنويرية التي عبَّر عنها خالد العظم قبل أكثر من خمسين عاماً؟ وهل تقاليد الحوار والتسامح وتقبل الآخر هي تقاليد طارئة علينا، بحيث أصبحت روح العصر الذي عاش فيه مسؤولون وقادة سياسيون من أمثال العظم غريبة عن منطق زمننا الدائري؟!!
وبالعودة إلى المسرحية وكاتبها، ها هو سعد الله ونوس يُمنع من جديد (هل يحق لنا أن نقول يُصلب من جديد؟) في وطنه، فبعد أن حرم في حياته من مشاهدة مسرحيته الأهم من الناحية الفكرية والفنية وهي تُؤدى على خشبات المسارح، ها هو «المجتمع» (ترى عن أي مجتمع يتحدث السيد الوزير؟!!) يطعنه في الظهر بعد وفاته، بمنع عرض هذه المسرحية الذي انتظره عشاق ونوس طيلة سنوات عديدة، وهو العرض الذي لم يكن بإمكانه أن يرى النور أصلاً إلا بنسخة فرانكفونية ألحقت الكثير من التشويه بالنص الأصلي، بعد أن أظهرت كل مؤسساتنا الثقافية الوطنية عجزها وتقاعسها عن تحمل عبء تحويل ذلك النص العظيم إلى عرض مسرحي جماهيري.
لن نستطيع أن نجد للسطور السابقة ختاماً أكثر تعبيراً من هذه الكلمات المقتطعة من المسرحية نفسها، والتي يقولها قبل انتحاره أحد أبطالها ممن شملتهم طقوس الإشارات والتحولات، فتجرأ على أن يجاهر بحقيقته أمام الجميع، مخلخلاً بذلك الكثير من جدران الكذب والنفاق التي تحيط بالمجتمع، وتسجن حرية وحيوية أفراده:
«ما أغرب هذه الدنيا... إن كتمت وأخفيت، عشت وتكرمت، وإن صدقت وكشفت، نبذوك وأخرجوك منهم... لا أستطيع أن أتراجع، ولا أستطيع أن أتقدم، أغلقت الأبواب، وهذه الدنيا ظالمة لا يعيش فيها إلا المزور والكذاب»..