مطبات: بوذا الجالس.. والقربان

(قل لليهود أن يخرجوا من فلسطين، تذكر هؤلاء الناس محتلون، وهذه ليست ألمانيا ولا بولندا، يجب أن يعودوا إلى ديارهم.. فليعودوا إلى بولندا).

هذا ما قالته هيلين توماس الصحفية العجوز الأمريكية، وكأنها تعرف أن أيامها الأخيرة هناك في المقعد المخصص لها في قاعة المؤتمرات قد دنت، وأن الرحيل بكلمة حق محتبسة عن بساط الشيطان شرف ستحمله في سجلها الطويل، قالت هيلين كلماتها ومضت مدفوعة بهواء عليل من مسقط رأس أهلها في لبنان إلى بيتها.

هيلين ابنة التسعين عاماً، العجوز القادمة إلى كنتاكي من أب لبناني وأم لبنانية أيضاً، الصحفية التي عايشت حكام البيت الأبيض من كنيدي إلى الحاضر أوباما، كاتبة المقال الصحفي، الصوت العالي بين إعلاميات أمريكا، المرأة التي أربكت وقاحة بوش في أسئلتها المتكررة عن إسرائيل، العربية التي خافت من صمت حكمتها الطويل، بوذا الجالس كما يصفونها.. قالت كلمتها الأخيرة واستقالت.

مجلس اتحاد مراسلي البيت الأبيض أدان تصريحات هيلين، وقال أنه سينظر في شأن الكرسي المخصص لها في غرفة الإيجاز الصحفي، وتلقت بعد كلماتها سيلاً من الانتقادات، وثورة من الهيجان من أصدقاء إسرائيل في أمريكا، وقامت أمريكا ولم تقعد على الهذيان الذي أطلقته سيدة البيت الأبيض الأولى كما يحلو لأوباما أن يسميها.. فعلتها هيلين وخرجت عن صمتها وكرسيها.

رددنا لهيلين المديح، أعجبتنا شجاعة العجوز، باركنا صوتها العالي من قلب الشيطان، صيحتها في الوقت الحقيقي، عندما يكون للصياح صدى لا يشبه تجربة العواء بين جبلين، شكرنا لها وقفتها هي التي يتسع لها الكرسي المخصص دائماً... وهيلين  ذهبت إلى البيت لتنام على غضب لا ينام.

بعيداً عما نريده من صوت مرتفع كهيلين، وعن صيحة عالية من وسط الحشد الذي ينتصر للقتلة، بعيداً عما نريده من السياسة والتاريخ، بعيداً عن الانبهار الأخرق بالديمقراطية الزائفة، عن اللون الأبيض الذي يسوده الأسود كإعلان انتصار للتنوع، عن الحديث الأسبوعي للرؤساء الأمريكيين، عن تصريحات الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض والبنتاغون والخارجية، عن كل البهرجة المريضة للمخدوعين بعلانية الانتقاد، والصوت الذي لا يشفر أو يحجب.. لقد كشفت العجوز البيضاء بلون ثلج (صنّين) الكذبة الكبرى، القمع هو العلانية، والمسرحية في الخطب الأسبوعية وامتطاء (المايك) الرئاسي، والصورة المباشرة هي ما تخفي خلفها خططاً مدروسة عن الديمقراطية والحرية، وإسرائيل فوق أمريكا، وأمريكا على رأي درويش:(أمريكا لأمريكا.. وراء الباب أمريكا).

من ينسى (مايكل مور) الأمريكي الذي لم يشرب من مائنا ولا هوائنا، ولم يحمله إلى أمريكا جسد عربي قرر الرحيل عنا ذات يوم بعيد، (مور) قاد التظاهرات ضد حرب العراق، ضربه أبناء جلدته وسبوه ومنعوه، كمموا صراخه المبحوح بمنشفة مبللة بالمخدر، لم يمسحوا عن جبينه عرق لهاثه المعترض، ألم يصرخ بأعلى الصوت، وبأوسع فم: عار عليك يا بوش، ألم يتصبب خجلاً على قيم الجمهورية الأمريكية التي استباحتها الأحذية القادمة إلى الشرق.

وهنا.. ونحن هنا في هذا الشرق الذي تتبلور فيه اليوم معركة فاصلة على التاريخ، لأن التاريخ يئن هنا، وكما عادة الشواطئ والأنهار هنا.. ثمة قرابين من دم لروح الطوفان، رجال في أوج فتوتهم، ونساء يشهقن كأول لحظات العناق، ولغات سوداء وبيضاء وسمراء تأتلف على هتك سر ليلة الغدر التي ألقت بيوسف في البئر.

هنا.. ولدت هيلين على كرسي في أعلى الجبال التي تطل على المتوسط، كرسي أقدم من مرورها على رؤوس البيت الأبيض بألوانها الواحدة، ومن هنا بدأت أولى الصرخات التي تعلن أن الصهاينة  الذين عادوا بأحذية (المارينز) إنما ينتقمون من التاريخ الذي صنعه ذات ليلة على شاطئ المتوسط (نبوخذ نصر).. لكن القرابين تنزف تحت البحر.