بين قوسين: الناس.. و«الرأسموندياليّون»!
سى الصراع الشامل بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي في الفترة التي تُعرف باسم «الحرب الباردة»، مستوى عريضاً من التوازنات السياسية والاقتصادية- الاجتماعية والثقافية والحقوقية طوال أكثر من أربعة عقود، وحدّ من جشع عتاة الإمبريالية واحتكاريّيها بشكل كبير، وأجبرهم على تقديم الكثير من التنازلات لشعوبهم وشعوب العالم على شكل رشىً أملاً في وقف المد باتجاه المعسكر الآخر. وقد تزامن بدء اشتداد الصراع مطلع ستينيات القرن الماضي، مع انتشار التلفزيون في معظم بقاع الأرض، ما أتاح لشرائح واسعة من الناس بمختلف الدول، فرصة متابعة جميع الفعاليات الرياضية القارية والدولية مجاناً أو شبه المجّان..
مجانية الفرجة هذه راحت تتقلص بالتدريج بعد الانهيار الكبير، حتى توقفت تماماً مطلع الألفية الثالثة، لتجد الشعوب الفقيرة نفسها فجأة، وحيدة في مواجهة رأس المال الاحتكاري بعد أن تخلت عنها حكوماتها، وبعد أن كشّرت الإمبريالية عن أنيابها مجدداً إثر تفردها بالهيمنة المطلقة على العالم.
ففي العقد الأخير، وفي إطار المركزة الهائلة لرأس المال الجارية عالمياً، احتكرت المؤسسات الإعلامية الإمبريالية العملاقة كل المناسبات الرياضية بالتواطؤ مع الفيفا واللجنة الأولمبية الدولية المنخورتين بالفساد، وراحت تبيع حقوق البث بأسعار باهظة لا تقدر على دفعها إلا مؤسسات إقليمية ثرية، التي راحت بدورها تبيع فرص الفرجة للمؤسسات الإعلامية الصغيرة وفق شروط معقدة، أو للأفراد عن طريق بطاقات الاشتراك، لتكون المحصّلة النهائية انضمام سلعة «الفرجة الرياضة» إلى بقية سلع السوق الرأسمالية «الحرة»، وخضوعها بشدة لقانون العرض والطلب بنسخته المعولمة، وللاحتكارية العابرة للقارات، وبات على فقراء الأرض أن يدفعوا المزيد والمزيد لناهبيهم المركزيين، الذين لا يبيعونهم حقيقةً في مثال البث التلفزيوني وما شابهه من سلع في عالم التواصل والاتصالات، سوى الهواء.
في بلدنا التي ترعرع أبناؤها على تلفزيون رسمي واحد، وكانت كأس العالم في عدة دورات متتالية، مناسبة تطول شهراً كاملاً للاستراحة من وطأة الإنشاء والخطابية الإعلامية المتبعة، والتصالح مع الشاشة الوطنية التي لا يوجد سواها، فقد وصلت رياح المتغيرات العالمية على شكل عواصف رملية حجبت الرؤية/ الفرجة كلياً، فمن جهة توقف التلفزيون الرسمي الذي صارت له فروع قليلة عن نقل المباريات الدولية بسبب عجزه عن شراء كامل حقوق البث لقلة إمكاناته، ومن جهة أخرى راح المواطن يتعرض واقعياً لضربات ثقيلة على بطنه ورأسه وعينيه بعد أن تخلت الدولة عن دورها الرعائي على محدوديته، والذي نتج عنه فيما نتج، عدم قدرته على تأمين معظم حاجاته الأساسية، فكيف بـ «الرفاهيات» و «الكماليات» كمتابعة الأحداث الرياضية الكبرى؟
هذا المناخ الجديد الموبوء بحمى التسليع والربح عالمياً، دفع العديد من الفهلويين السوريين أصحاب «الطموح» إلى ابتداع طرق أو تقليد أطر معروفة لنيل حصة من خيرات احتكار البث، وقد جربوا ذلك في مونديالات سابقة ونجحوا، ويعتمدونه اليوم في المونديال الحالي، ومنطقهم في ذلك أنه إذا كان القسم الأكبر من كعكعة كأس العالم تقضمه المؤسسات الدولية والقارية المعنية والإمبراطوريات الإعلامية الأم، ثم بناتها الإقليميات التابعات، ثم المحطات الخاصة والرسمية المحدودة، فلماذا لا يصارعون للحصول ولو على الفتات؟
انطلاقاً من هذا الاستنتاج العبقري، فإن أصحاب الفنادق والمطاعم الكبرى في بلدنا الذين قضوا أو أوشكوا، على منافسيهم الصغار بعد استفادتهم (بالمصادفة) من مرسوم منع التدخين في الأماكن العامة المغلقة، ما انفكوا منذ عدة أعوام يقومون بوضع شاشات عملاقة في صالاتهم لجذب مقتدري الناس المولعين بكرة القدم مع مضاعفة تسعيرة الخدمات، وتقلدهم في ذلك المقاهي الشعبية المختصة بشرائح أقل دخلاً.. أما المواطنون المعدمون الذين لا يملكون شيئاً، فمحرمون من التمتع بأي شيء بشكل لائق، وقد لا يتمتعون من الآن فصاعداً بأي شيء إذا استمر صمتهم.. فقد انتهى عصر الفرجة المجانية.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.