الكاتب اللبناني الذي يفهم في كل شيء..
لم أستطع أن أمنع نفسي من الابتسام حين وجدت أن الذي كتب مادة عن رحيل أسامة أنور عكاشة على الصفحة الأولى من جريدة «السفير» هو عباس بيضون الشاعر المعروف ورئيس القسم الثقافي في السفير، فقد توقعت أن يقوم بهذه المهمة أحد كتاب صفحة «صوت وصورة» في الصحيفة، وهي الصفحة التي تعنى بالفن والتلفزيون. صحيح أن قيمة عكاشة تستأهل أن يتم تناول مسيرته من مثقفين،
لكن أن يمتلكوا الحد الأدنى من المتابعة الحقيقية لأعماله، والأدوات والخلفية اللازمة لكتابة هذا النوع من المواد (أذكر المقالة التحفة التي كتبها بيضون عن مسلسل «أسمهان» الذي يبدو أنه لم يشاهده)، فبيضون لم يكن يرثي أو يستعيد خبرة شخصية مع أعمال الراحل، بل يحلل، وإذا كنت قد ابتسمت مع رؤيتي لاسم صاحب المقال، فإنني ضحكت حين وجدت بيضون يحيل أعمال عكاشة ذوات الأجزاء إلى مسلسلات أمريكية طويلة كـ «دالاس»، وبغض النظر عن اعتباطية هذه الإحالة لدى سيناريست لديه مرجعية أدبية غنية، إلا أن ذلك يعبر عن تصميم الذهن العامل في الصحافة الثقافية اللبنانية، فالسادة رؤساء الأقسام الثقافية في الصحف الكبرى يستطيعون تقييم مسيرة محمد عابد الجابري الفكرية إثر رحيله، كما يستطيعون الكتابة عن هيرتا موللر الحائزة على جائزة نوبل للآداب دون أن يكونوا قد قرؤوا لها حرفاً، وبإمكانهم أن يكتبوا في الفن التشكيلي والموسيقا والسينما والعمارة، ومكانتهم المستمدة من نفوذ المنابر التي يعملون فيها تجعلهم خارج المساءلة، هكذا يستطيع عباس بيضون أن يصرف ربع مقالة طويلة في إطار ملف للسفير الثقافي عن مرحلة الستينيات على كفة بنطاله (هكذا حرفياً) دون أن يخرج القارئ بجملة مفيدة من النص برمته، كما يستطيع أن يكتب (أي كلام) عن مجزرة أسطول الحرية لأنه الحدث الراهن.
الثقة الزائدة بالنفس للكاتب اللبناني الذي يفهم في كل شيء، يطعمها بإحالات غربية (ليلخم) القارئ العربي بثقافته الأجنبية، ومع أن أعداداً كبيرة من مثقفي (البداة الحفاة) يعرفون لغات أجنبية وثقافتهم لا تشكو من قصور (والترجمة جعلت الكثير متاحاً ويساهم المترجمون السوريون بقسط وافر من هذه العملية دون أن ينالوا ما يستحقون من تقدير)، إلا أن المثقف اللبناني هو المنتظر منه أن يكون الخبير والمرجع والمقيّم، وبإمكانه أن يرفع أسماء ويعتم على أخرى، ويشترك في هذه اللعبة المثقفون العرب، ومثقفو الجوار تحديداً، التي تتراكض مواقعه الإلكترونية لتختار مقالاً تافهاً من مطبوعة لبنانية قد يوجد في الصحافة المحلية ما هو أفضل منه، وإذا رحلت شخصية أدبية لبنانية أو نالت جائزة تتقاطر مواكب المعزين أو المهنئين من وراء الحدود لتقديم فروض الطاعة، بينما قلما يجري الالتفات إلى مبدع محلي رحل أو (انجلط) أو حدث أن نال جائزة.
بات كتاب متحذلقون من بيروت قادة فكريين، هؤلاء المهووسون باستعراض كفاءتهم اللغوية ومخزونهم التراثي المقحم، أو قراءاتهم الغزيرة أو خبراتهم الحياتية التي يعتقدون أنها استثنائية، ينثرون أمامنا ما يعتقدون أنه لقى فكرية نادرة، بينما هي لا تزيد عن كونها لغواً، والأنكى أنهم وجدوا مقلدين لهم هنا. وصفة للصداع وإضاعة الوقت: اقرؤوا (الكبار) وضاح شرارة، وجهاد الزين، وحازم صاغية، وحسام عيتاني.