مطبات: العصا المكسورة
مات بفعل الشيخوخة والمرض والقدر أغلب أساتذتي، بالطبع أقصد أساتذة المدرسة بمراحلها، أما بالنسبة إلى أساتذتي بعد هذه المرحلة، فأغلبهم على قيد الحياة إن صح ذلك، وبعضهم ميت بإرادته.
آخر هؤلاء الموتى أستاذ اللغة العربية «علي بطيخة»، وبالطبع أيضاً، كانت الجلطة القلبية سبب رحيله عن هذا العالم الذي صار يحتقر العلم، العالم الذي يعتقد أن العلم لا يطعم خبزاً، ويذهب بصاحبه إلى الفقر والجوع.
أما لماذا أتذكرهم الآن فمن مبدأ «الضد يظهر حسنه الضد»، وليس من قبيل «ضدان لما استجمعا حسنا»، والسر هو الأخبار التي ترد على بعض المواقع الالكترونية السورية عن طرد أساتذة في الجامعة لأسباب يمكن أن نسميها شائنة.
أستاذ جامعي متهم بالابتزاز الجنسي، وآخر ببيع أسئلة الامتحانات، وثالث يشارك في لجنة لاختيار مدرسين في مسابقة لوزارة معنية ويدعم زوجته، وأخته، ورابع يفكر كيف سيجمع ثمن سيارته من جيوب الطلاب عندما يحين موعد يكرم فيه المرء أو يهان.
هنا يحدث أن يكتب أستاذ تقريراً كيدياً بزميله الدكتور ليتقاسم مع نفسه كعكة المادة الدرسية، ويتذوق على مهل (شوكولا) نتائجها على قدر ما يستطيع، وهنا.. أيضاً في شقة في ضواحي دمشق، يفتتح أستاذ في الإعلام المفتوح مكتباً خاصاً لطلابه يمنح فيه شهادات التقدير، وتجاوز الامتحان مقابل مبلغ مالي، وهنا أيضاً وأيضاً أستاذ يشارك صاحب استوديو خاص في جرمانا على صفقة طلبة تواقين لأن يسجلوا أسماءهم في ذيل مادة منشورة ولو كانت على حائط... هنا أدعو بالرحمة والمغفرة والجنة لأساتذة ضربوا وجه طلابهم بالحذاء من أجل ضمة على حرف في آخر كلمة، الرحمة لأستاذ انهال بعصاه الرقيقة على قدمين يحملان جسداً برأس فارغ، الرحمة لمعلم ترتجف من صوته ومروره الأفئدة.
اليوم وهنا... الأستاذ يدخل من مدخل الطلبة ويضيع بينهم، الطالبة الجميلة تعلك لبانتها وتناقش في مشروع التخرج، الطالب ذو الشعر السارح يضع فخذاً على فخذ ويعلك مصطلحاته، الطالبة تتكئ على باب غرفة الأستاذ القابع خلف كرسيه هامداً، وتميد بجسم معوج... المستخدم يرمي فنجان القهوة على الطاولة الخشبية بنصفين، نصف على الطاولة ونصف في الصحن.
اليوم وهنا.. بين العام، النظامي، والمفتوح.. يدور الأساتذة على نوعين من الطلبة، الأول دفع ثمن ما يدرس ويجب أن ينجح، والثاني على حساب الدولة مجازياً لا يدفع ولا ينجح، والأستاذ بشر يأكل ويشرب ولديه عائلة، كما أنه زيادة عن الموظف والمواطن العادي، مضروب بحجر الوجاهة والظهور، ويجب على الأقل أن يكون أكثر أناقة من الطالب، وألا يشتكي من فقر الحال والعيال، وأن يعود إلى البيت بكيلو كرز، وبطيخة، وعلبة حليب، فهو مثل بقية البشر عنده زوجة تطالب، وأطفال لهم أفواه.
اليوم وهنا.. يذهب الأستاذ إلى بيت الطالب في المساء، يشرب الشاي والعصير، ويبتسم بفم جديد، ويسلم بأصابع دون طبشور، وعند الباب تودعه العائلة وتدس في يده الورقة الخضراء ذات الأصفار الثلاثة.
اليوم وهنا.. يتصل الطالب بجواله، ويرد الأستاذ بنعم، «أتوقع أن يأتي السؤال التالي، اكتب الشواهد التالية، المسألة تحل حسب نظرية فلان...»، وفي نهاية الامتحان يكرم الأستاذ أو يهان.. الطالب في الشارع، كذلك الأستاذ، يسيران في العام القادم، هذا إلى جامعته الخاصة، وذاك إلى سيارته الجديدة التي يمكن أن تدار بمفتاح عن بعد.
من حق الأستاذ أن يعيش، والطالب أن ينجح، ولكن ليقل لي أحد ما: لماذا وصلنا إلى اليوم وهنا؟ ولماذا عندما كسرنا العصا انكسر الأستاذ؟ وكيف أصبحت القلوب الصغيرة غير آبهة لوقوف الرسول المفترض؟ وكيف سيذهب أولادنا إلى الصف ويتعلمون بين يدي أستاذ مسائي درسهم الأول.. دون ضحكات هامسة؟؟.