بين قوسين: الفن.. عقيماً

مر وقت طويل على بلادنا منذ توقف الفن بمعظم أقانيمه عن تقديم جديد مؤثر يلامس الوجدان العام ويرتقي بالذائقة الجمعية.. وربما أصبح من المهم أن نسأل: هل هو قحط مؤقت يطبع هذه السنين العجاف ثقافياًً التي تكاد تخيّم على الشرق، أم أننا أمام مشكلة بنيوية مزمنة ترتبط بمستوى التشوه الذي طال الهوية والثقافة كما طال غيرها مع طغيان أفكار، وآثار أفكار الليبرالية الجديدة؟

مر زمان ليس ببعيد، ازدهرت فيه الفنون بأنواعها ازدهاراً لافتاً بحكم عوامل موضوعية مؤاتية، داخلية وخارجية، وبرزت تجارب موسيقية ومسرحية وغنائية وتشكيلية وسينمائية، انبجست من قلب مجتمعاتها، واستطاعت عموماً أن تقدم مستوى عالياً من الأعمال الإبداعية المتميزة شكلاً ومضموناً، وأسست لعلاقة تبادلية وطيدة بين المبدع والمتلقي، وساهمت في ارتقاء الناس فكرياً وروحياً. أما اليوم، ومع تغير تلك الظروف العامة، وانحدار معظم الفنون إلى الدرك السفلي مع استثناءات بسيطة و«مطموسة» تكاد لا تذكر، قد لا يتذكر الكثيرون آخر أغنية حديثة ناطقة بالعربية بمختلف لهجاتها، استساغتها الأذن وعلقت في الذاكرة.. آخر مسرحية جميلة عرضت على خشبات المسرح السوري وولدت انطباعات لا تنسى لدى من حضرها.. آخر فيلم سينمائي عربي أو مقطوعة موسيقية عربية أو معرض تشكيلي ترك أثراً طيباً.. رغم أن الكثير الغزير من هذه «الفنون» بتنوعها ما يزال يتكاثر بشكل سرطاني، ويهاجمنا برداءته كل لحظة بمساعدة وسائل الإعلام السمعية والبصرية، التي تناسب انتشارها وتزايدها طرداً مع تزايد انحدار «الفنون» وميلها للسطحية والاستهلاك.. والمثير للريبة هنا أن مالك محطة «الدعوة»، هو على الغالب، الشخص ذاته مالك محطة «الانحلال»..

فأين تكمن المشكلة؟ هل هي في قلة أو انعدام المواهب الواعية القادرة على الإبداع والتجديد في ظل التدهور الاجتماعي – الاقتصادي المريع، أم في غياب الحواضن الرسمية وغير الرسمية الراعية والمحفزة، أم في المناخ السياسي- الثقافي العام؟؟؟

إذا افترضنا أن كل ما سبق يمكن أن يكون سبباً، فما هو الحل؟

والحال كذلك، فإن هناك من بات يؤمن أن الحل يكمن بمقاطعة المنجز «العصري»، والانفتاح على القديم الجميل، لأن حصن كل منا اليوم، بمن في ذلك الدول والمجتمعات، هو الأرشيف، حصننا ونحن محاصرون بالغث الطاغي، هو سيد درويش وبيرم التونسي والرحابنة وفيروز ووديع الصافي ونصري شمس الدين وزكي ناصيف ومحمد خيري والشيخ إمام وناظم الغزالي وسعد البياتي.. أبو خليل القباني وفواز الساجر وسعد الله ونوس وممدوح عدوان ونهاد قلعي.. لؤي كيالي وفاتح المدرس..إلخ.. وقد يكون ذلك صحيحاً، ولكنه لا يكفي بالتأكيد، لأن الاستمرار طويلاً في حالة دفاع لن يجر إلا نفاد المؤونة واليأس، ولن يؤدي إلا إلى تكريس السائد الهابط أكثر فأكثر، والمطلوب جدياً هو العمل على صياغة مشروع وطني ثقافي تحرري شامل، يأخذ على عاتقه محاولة الخروج من نفق الرداءة الطويل، وهذا برسم المثقفين الوطنيين المهمشين خارج أطر المؤسسات الرسمية الغارقة بالفساد والكسل، والمحافظين في الوقت نفسه، على مسافة بعيدة عن إغراءات وفخاخ المؤسسات الدولية «غير الحكومية» وتابعيها المشرقيين من «رجال الأعمال» الأميين، أو المشبوهين، وهي أيضاً برسم قوى المجتمع الحية التي تؤمن يقيناً بدور الثقافة والفنون في التغيير.. وخطوة الألف ميل تبدأ بخطوة… 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.