«كرة القدم».. استعادة الطفولة في كل أسبوع!
تحضر كرة القدم بقوة معلنة عن نفسها، تتابعها أفئدة وقلوب الملايين من المشجعين والمهتمين، تنافس بشدة أخبار الحروب والدمار الذي لحق بالعالم وحالة الغليان التي يعيشها، وربما تلفت الكرة انتباه الناس حتى أكثر من الأخبار لأنها تبدو فسحة حياة في خضم الموت.
وردت الرياضة في كثير من الأعمال الأدبية، وما تغير على مر الزمان هو طبيعة وتطور العلاقة بينهما، إذ نجد اليوم تزايداً مستمراً لحضور الرياضة في القصص والروايات لدرجة تصبح فيها أحياناً محركاً للأحداث والشخصيات في بعض الأعمال الأدبية، أو الموضوع والحدث الأوحد في بعضها الآخر، بينما لم تكن ترد سابقاً إلا في مشاهد متفرقة لتساهم في إضفاء الزخم والحركة فيها.
تتنوع أنواع الألعاب الرياضية المذكورة في الأدب، وتتربع كرة القدم على عرشها، خاصة بعد أن أخذت بقلوب الملايين من الناس على مستوى العالم. العلاقة بين كرة القدم والأدب إشكالية.. يرى البعض أنهما عالمان متناقضان وأن هذا ما سبب القطيعة بينهما فالكُتّاب كانوا يحتقرون كرة القدم، ولاعبو كرة القدم كانوا يهربون من الأدب. وهذه التقسيمة وصلت أيضاً للقراء والمشجعين. لكن في الحقيقة تمكنت الكرة من أن تدخل عالم الأدب مثلها مثل أي موضوع آخر.
اتخذت العلاقة بين الأدب وكرة القدم اليوم شكلاً جديداً، يمكن القول أنهما يشتركان بكونهما نتاج عملية العولمة وانتشار «بيزنس» كرة القدم، وقد رافقها الأدب في هذا المصير، وكذلك سوق النشر.
«أفضل شعراء العالم..»
«الهداف دائماً أفضل شعراء العام»، هذا ما كتبه ذات مرة باولو بازوليني الكاتب والشاعر والمخرج الإيطالي، الذي تعكس عبارته قمة الرومانسية في العلاقة بين العالمين. في مكان آخر يقدم بازوليني أفضل تعريف يمكن أن يقدمه الأدب عن كرة القدم: «كرة القدم منظومة من العلامات، وبالتالي فهي لغة. ثمة لحظات شعرية بشكل صاف، إنها لحظات إحراز هدف. كل هدف دائماً يمثل اختراعاً، دائماً تمرد على الكود: الهدف إبهار، لهب، لمعان. مثل الكلمة الشعرية. هداف البطولة هو دائماً أفضل شعراء العام. والمباريات التي تحقق أهدافاً أكثر تحقق شعرية أعلى».
لم يكن هذا رأي خورخي لويس بورخيس الذي رجم بسخريته هذه اللعبة، وقال في أكثر من حوار صحفي: إن كرة القدم «إحدى حماقات الإنجليز.. رياضة جمالياً قبيحة، 11 لاعباً ضد 11 آخرين يركضون خلف كرة، منظر لا يحمل جمالاً».
وحول هذه القطيعة مع اللعبة، يؤكد مارتين كاباروس، مؤلف «فم صغير»، أن «موقف بورخيس مرتبط بفكرة خاصة بالسبعينيات ترى أن كرة القدم أفيون الشعوب، اللعبة التي تخدع ملايين من الحمقى الذين يسحبونهم من صراع الطبقات ليضعوهم أمام صراع المربعات..».
«انتحار في الملعب»!
كتب البيروفي خوان بارا ديل رييجو، والأرجنتيني برنارد كنال فيجو: «القصيدة الأخيرة لكرة القدم» فيما نشر أوراثيو كيروجا «انتحار في الملعب»، وهي قصة قصيرة عن حالة حقيقية تعرض لها لاعب في ناثيونال، حيث أطلق رصاصة على نفسه في الدائرة الوسطى بالملعب. أما أول حكاية خيالية في تلك الفترة حول كرة القدم فكانت رواية الفرنسي هنري مانثرلان «أحد عشر أمام المرمى الذهبي». وفي 1923، كتب بابلو نيرودا قصيدته الشهيرة «اللاعبون» في ديوانه «غسق»، وخلال النصف الأول من القرن العشرين كانت هناك دغدغات بين الأدب وكرة القدم إذ دخل بقوة ماريو بينيديتي بقصته الشهيرة «جناح أيسر» التي كتبها في 1955 ونشرت في كتاب «أهل مونتيفيديو».
غير أن الأدب لم يمنح جمهوراً لعالم الكرة فقط، بل أصبح أكثر ثراء من خلاله أيضاً. ألبير كامو، مثلاً، تعلم عندما كان حارس مرمى في الجزائر أن «الكرة لا تتجه أبداً صوب المكان الذي ننتظر أن تتجه إليه. هذا ساعدني كثيراً على فهم الحياة.. أكثر ما تعلمته عن الأخلاق وواجبات الرجال أدين به لكرة القدم». ولكرة القدم يصبح كامو مديناً بأسطورة سيزيف والعادلون والطاعون.
«كرة القدم بين الشمس والظل»
أما إدواردو غاليانو فهو من أرسى مستوى جديداً من العلاقة بين الرياضة والأدب، بكتابته عملاً كاملاً لا مكان فيه لأيّ شيء سوى كرة القدم. الكاتب الشغوف بالكرة كبقية أبناء بلده وقارته، كان يحلم بأن يصير لاعباً، لكنّه «لم يكن يلعب جيّداً إلّا في الليل، أثناء نومه»، كما يعترف في مقدمة كتابه «كرة القدم بين الشمس والظل» الذي وضعه في العام 1995، والذي أهداه لأولئك الأطفال الذين التقى بهم ذات مرة وكانوا عائدين من لعب كرة القدم وهو يغنون:
«ربحنا أم خسرنا
لن تتبدل متعتنا
متعتنا تبقى كما هي
سواء أخسرنا أم ربحنا »
يقدّم في هذا الكتاب تأريخاً لأهمّ لحظات كرة القدم في القرن الماضي. لا مكان للحب، لا مكان للحرب، لا مكان للمعتقدات المختلفة. تصبح كرة القدم في هذا الكتاب هي المعشوقة والمعبود والأفيون الجديد للشعوب والعائلة وكأس الشرب. بسببها تندلع الحروب، وبفضلها تعلن الهدن، كما حصل مرة في الحرب بين نيجيريا وبيافرا، وذلك من أجل مشاهدة بيليه يلعب.
الأدب وكرة القدم فنّان، يسيران معاً. ما تزال المحبرة تحمل عبارات تشير لجمال كرة القدم كما يراها الأدباء. وما تزال كرة القدم، رغم التسليع، وباعتبارها لعبة فقط كما يقول خابيير مارياس «هي استعادة الطفولة كل أسبوع».
الملعب بالنسبة لغاليانو ليس سوى مسرح كبير، يمثّل اللاعبون فيه بأرجلهم في عرض موجه إلى جمهور من آلاف أو ملايين المتحمسين الذين يحضرونه في المدرجات أو في البيوت، لا فرق، أرواحهم معلقة بطرف خيط. من الذي يكتب النص .. وكم من المسارح يوجد في مسرح كرة القدم العظيم؟
يوجه غاليانو في كتابه نقداً مبكراً نسبياً لتحويل كرة القدم إلى سلعة تجارية، يراكم من خلالها ملاك النوادي الثروات ويبيضونها، ويصل من خلالها أعضاء ومسؤولي الاتحادات الكروية، والاتحاد الدولي نفسه، إلى الثراء، فيما يحرم محبّو اللعبة الأكثر شعبية في العالم من مشاهدة المباريات لاضطرا رهم دفع مبالغ لا طاقة لهم على دفعها عند كل حدث رياضي، يقول غاليانو: «تاريخ كرة القدم هو رحلة حزينة من المتعة إلى الواجب، فكلما تحولت هذه الرياضة إلى صناعة كان يجري استبعاد الجمال الذي يتولد من متعة اللعب لمجرد اللعب».