في المشهد الثقافي.. بؤس الثقافة
قد يتفق كثيرون أن هناك أزمة حقيقية تعيشها الثقافة، تندرج ضمن جملة أزمات تسم عالم اليوم المضطرب الذي تعصف فيه الصراعات والتناقضات المختلفة، وهذه الصراعات التي وإن لم يخل التاريخ منها يوماً، إلا أنها تزداد في عصرنا الحالي حدة وتنوعاً وتعقيداً وانتشاراً، وربما تشوهاً أيضاً، خصوصاً أنها راحت تمس كل عناصر وتفاصيل الحياة المعاصرة.
ومن أبرز المظاهر التي يعبر بها البؤس الثقافي عن نفسه اليوم، تشكُّل جيل من أدعياء الثقافة الذين يطرحون أنفسهم كرموز للمرحلة، رغم أنهم لا يمثلون حقيقةً سوى أنفسهم، وفي أحسن الأحوال الوسط الضيق الذي يعيشون فيه أو ينتمون إليه، فالثقافة عند هؤلاء ليس لها دور أو وظيفة اجتماعية، بل إنها تعبير عن ذاتيتهم المفرطة فقط..
فإذا أخذنا الكتابة مثلاً كأحد أشكال الفعل الثقافي، نجد أن المسألة لدى العديد من الكتاب لا تتعدى كونها فعلاً مجانياً ليس له هدف أو غاية.. فهي ليست حقلاً لصراع من أي نوع كان رغم أنها، أي الكتابة، ككل الأشكال الأخرى التي تعبر الإيديولوجيا بها عن نفسها، إحدى أهم المجالات التي تعكس الصراع، وكل الذين نظّروا متأملين الانعتاق من الإيديولوجيا لم يفعلوا أكثر من محاولة تقديم وجه آخر جديد لها يبقيهم آمنين على أنفسهم خارج إ‘طار الصراع ويقيهم شرّ معاركه، ولاحقاً يعفيهم من تحمّل مسؤولية النتائج المترتبة عنه، دون أن يدركوا أنهم بقصد أو بغير قصد، قد تحيزوا عبر ما اعتقدوا أنه حياد!.
ولأن هذه الشريحة من «المثقفين» تصر على أنها خارج دائرة الصراعات التي يضج بها العالم، فإنهم يحاولون واهمين حل ما لا يمكن حله إلا بالصراع، فهم يحلمون بالتغيير ويرفضون شروط التغيير، وأولها، وربما أهمها أن يكون لهم دور - بحكم موقعهم كمثقفين - في إحداث التغيير..
وتجدهم، وبسبب من ذاتيتهم المفرطة بالذات، يتغنون بأنفسهم، ويعيشون في عوالمهم الافتراضية مجردين أنفسهم من أي التزام سياسي أو اجتماعي، ولكن المشكلة أنهم في الوقت نفسه، يطرحون أنفسهم كأصحاب مشاريع، فكل منهم يدعي امتلاكه لمشروعه الخاص، ومع ذلك، ومهما يكن شكل هذا المشروع (قصيدة، رواية، مقالاً صحفياً.. الخ..). فإنهم لا يعطون أحداً الحق في إمكانية مناقشتهم فيه: أكان من جهة الأغراض أو الوسائل أو المضامين، أو الجهة التي يصب منتجهم في خدمتها.. فالمشروع بكل ببساطة هو ملك صاحبه فقط، وهذا المالك الحصري يكتب لمجرد الكتابة دون أن يطرح على نفسه أسئلة من أي نوع!! الماضي بالنسبة له مرفوض، والمستقبل لا أمل فيه. الحاضر فقط هو ما يعنيه.. والحاضر ليس كواقع موضوعي معني قبل غيره - على الأقل بحكم ادعائه بتمثيله للثقافة - بمعرفته وتحسين شروط الحياة فيه أو تغييره، بل حاضر يمثل إراداته الفردية فقط عبر البحث عن الخلاص الذاتي وتكريس مقولاته والدفاع عنها.
إن هذا النمط العاجز عن الرؤية، لا يستطيع فهم منطق التاريخ وحركته والتي لن يكون المثقف مؤثراً فيها إلا من خلال التزام حقيقي والتحام فعلي بالقوى المحركة للتاريخ والفاعلة فيه، التحام عضوي، يمكّن أصحابه من أن يكونوا قاعدة لهذه القوى، وهي التي بدورها ستمنحهم فرصة إغناء مشاريعهم المفترضة وإنجازها من خلال ممارسة التجربة، والإنتاج على أساسها إنتاجاً ينال المبدع ومنجزه مشروعيتهما من تأثيرهما الفعلي والحقيقي في الواقع الموضوعي.