الصباح.. متسللاً بين الحواجز!
تغير في الآونة الأخيرة صباح السوريين، تغير العبوس الذي أتقن حفر معالمه صباحاً على وجوههم، بعد معركة الأمس الطاحنة مع الجوع الكافر، متهيئاً لجولة جديدة، لا يأملون معها تواجد متطوعين قادرين على رسم خطط محاصرة هذا الفقر، ولا معطين لهم حق إعدامه رمياً بالرصاص، ليتحول إلى عبوس مقيم.
بالأمس كانوا يحاولون طرد هذا العبوس بأقل الكلف، صوت فيروز، قهوة الصباح، سهرة طويلة، تسكع في الشوارع، ليلة دافئة مع الحبيبة، مكافأة في العمل، وقليلاً من الأصدقاء.. لكن من طرد من الشباك جاء مختالاً من الباب!!
لم يستطع الصوت الفيروزي المرور عبر حواجز اليوم دون أن يصمت. فبدل صباح الخير، يسمع من ينتظر دوره ليعبر الحاجز كلمة واحدة: «الهوية».. تتلوها كلمة أخرى «افتاح الصندوق».
لا يستطيع أحد الهروب من مأزق كونه إرهابياً محتملاً، أو منتمياً لجماعة سلفية محظورة، أو أحد المندسين، فالبندقية مصوبة تماماً إلى الصدور.
ولكي يتجنب السوريون هذه الصباحات، تعرفوا على كل الطرق الفرعية، التي ربما تنجيهم من أزمة قادمة من جراء إبراز الهوية، وهرباً مقصوداً من عناء فاق طاقتهم على التحمل، وربما اعتقال لمجرد انتمائهم إلى مناطق لن تعود إلى عبوسها الأول.
الأطفال الذين ينتظرون هوية سورية عندما يكبرون توجب عليهم معرفة طرق البساتين، والتخفي عن تلك الحواجز أكثر من غيرهم، فكل بنادقهم المائية وذات الأصوات العالية التي لا تلبث أن تتحطم سريعاً بلعبة «أبطال حرامية»، لم تكن لتزرع في قلوبهم هذا الخوف بالمقارنة مع تلك البنادق المصوبة إلى حافلاتهم المدرسية. والتلاميذ الذين لم يسعفهم الحظ بوجود طرق لا تخترقها الحواجز، تساءلوا عن الهوية؟؟ والحرامي؟؟ وأكدوا أنهم لم يسرقوا شيئاً بالدليل القاطع وهم يفرغون محتويات حقائبهم المدرسية في أرض الحافلة، مرتجفين من كتب قد تحمل ممنوعاً.
حقيبة السيدة التي لم تفتش ولا مرة على الحاجز تخلت عن معظم محتوياتها النسائية حتى لا يطول الانتظار.
بينما تعاملت أخريات بإستراتيجيات متباينة، منهن من كثفن زينتهن ليعبرن دون إبراز الهوية، وأخريات نسين كل ماركات التجميل، حتى لا تطول الأسئلة. أخريات أنساهن الرعب والقلق على أطفالهن ارتداء زوج الأحذية نفسه.
وللعاشقين نصيبهم من حواجز بدأت بإحباط إرسال رسالة للحبيبة من منطقة محاصرة إلى أخرى، من محيط دمشق إلى قلبها.
الحاجز ذاته لم يسمح للعاشق الذي قطعه مكرهاً أن يصل إلى الحبيبة كله. فقد أفقده ما كانت العاشقة بانتظاره.. الآثار التي بقيت عليه جعلته يرمي العالم بأسئلة تعيده إلى الغاب.
أجل تغير صباح السوريين إلى صباح حزين.. ترويه القصص التي باتت تسري في كل مكان، لأن المساءات الخالية من زوارها الليليين والشوارع التي تصفر قبل الغروب نشأ لها ألسنة أيضاً..
كيف يمكن أن يمنعك أحد من الدخول إلى بيتك، حيّك، ومدينتك؟ ليس مستغرباً أن يتحول الإنسان في هذا البلد ذي الإمارات الإسلامية ومناطق المندسين إلى قنبلة جاهزة للانفجار.
حتى الكمبيوتر لم يسلم من تلك الحواجز، فالسؤال الذي قد يحمل هلاكه: «معك فيس بوك؟؟».
لا عبور بلا هوية، ولا هوية مع حاجز..
رجال الأمن يدققون الاسم والنسبة والخانة والنفوس، محولين الهوية السورية إلى مدن ومناطق وبلدات وقرى، طوائف وأثنيات وقوميات وأقليات، معارضين وموالين.. تلك الهوية التي كان معظم السوريين ناسين وجودها خارج جيوبهم، لأيام طوال، يتذكرونها اليوم كما يتذكر رجال الدين صلواتهم.
ويستمر الإعلام الرسمي بإعلاء شأن الحواجز ووظيفتها الأمنية العالية، وحماية المواطنين، وفي الآن ذاته يؤكدون على الوحدة الوطنية وهم يعرفون أن مجرد انتماء أحدنا لمنطقة «المندسين» يجعله خارج الوطن.
الولادة القيصرية لتلك الحواجز بدأت بلجان شعبية مهمتها حماية الأحياء من مجهول، من غريب، من مندس، من أحدهم.. وكان من المفترض أن ترافق هذه الولادة ولادة أخرى تحمل في أحشائها نواة ديمقراطية حقيقية لو أدت تلك اللجان الشعبية دورها الوطني.
لكن الإعلام أيضاً تدخل ليسمعنا صوت أبو حبيب الذي ألقى القبض على أحد المندسين الغرباء لأنه غريب عن الحي فقط..
تلك اللجان أجهضت ذاتها بمواقفها الرعناء وانتمائها الأعمى لطوائفها، في حين كانت مرشحة لتكون بذرة أولى في بناء ديمقراطي حقيقي..
الحواجز اليوم تؤكد معناها القاموسي.. حيث باتت فاصلاً بين أرجاء البيت الواحد، أعني بيتنا الكبير؛ سورية..